Site icon IMLebanon

الحرب السورية قبل إضافة عام جديد

أقام حافظ الأسد نظاماً «مختلطاً»، لشخصه وعائلته وضباط منطقته وطائفته «العلوية» وأولادهم فيه المقام الأول، وللبعثيين «السنيين» من تحدّرات ريفية، وبعض شرائح البورجوازية المدينية «السنية» المقام الثاني. 

هذا الطابع «المختلط» لنظام حافظ الأسد لم يكن كافياً لستر الطابع التغلبي الفئوي الأقلوي فيه، لكنه كان كافياً لتأمين استقرار النظام المستبد، وفرض معادلة ثقافية – أيديولوجية، يرطن فيها الضباط «العلويون البعثيون» بإحيائية «أموية» مؤسطرة قومياً، في حين يقلّد فيها رجال المخابرات من السنّة لهجة مرؤوسيهم العلويين، وطريقتهم في النطق.

كانت التركيبة مختلطة طائفياً ومناطقياً للنخب المعززة وذات الحظوة في النظام الأسدي، في مقابل السمة المحددة أكثر لذوي الشوكة فيه من الضباط العلويين وأولادهم. وهذا كان يسمح للنظام بأن يتباهى بأنه علماني – تقدميّ، ولا طائفي، ويحارب الطائفية والرجعية معاً، وأنّ وصفه بالفئوية اختلاق استشراقي يصرّ على رؤية سوريا بالمقولات التقسيمية لها في زمن الاستعمار الفرنسي. 

لكن النظام تخلّص الى حد كبير من شبهة «الاختلاط» العلوي – السنّي في السنوات الخمس الأخيرة، من دون أن يعني ذلك أن السنّة السوريين، وهم عرب وكرد وتركمان، أمكن تأطيرهم في كلّ نقيض واحد لهذا النظام، بل كان تأطير «العرب السنّة» في «عصب جامع» متعثراً نسبة لتأطير الكرد والتركمان، حيث طغى العنصر القومي الإثني لطمس الهوية المذهبية عند الكرد، وتكامل العنصران عند التركمان، في حين ضعف العنصر القومي عند «العرب السنة»، إلا حين يتعلق الأمر بالتناقض العربي الكردي، في حين أدخلت الرابطة المذهبية في دوامة منهكة لها: فالليبراليون لا يستسيغونها، ويتبرمون منها، والإسلاميون انشطروا في أمرها. بين من اعتبرها دجاجة تبيض ذهباً: ما دامت أكثرية السوريين على لون ديني مذهبي واحد فانتصارهم محتوم وسريع على الطغيان الفئوي. وبين من اعتبرها رابطة تحتاج لمعاودة الربط: باعتبار «السنية» غير كافية كانتماء، ولا بد من اعادة تشذيبها، واعادة انتاجها، بـ»اعادة أسلمة» و»اعادة تسنين» المسلمين السنّة أنفسهم. 

لقد ارتكب الليبراليون في سوريا خطأ جسيماً: افتراض أن ثورة على نظام فئوي يمكن ان تكون ثورة «لا طائفية». أو في الحد الاأقصى، تقبل هكذا واقعاً على مضض، بدلاً من التقاط هذا الجامع الاثني المذهبي لأكثرية السوريين وطرح السؤال عن كيفية تحويله الى عنصر توحيدي اعتدالي، قادر، وبالتحديد لأنه «الأكثرية»، على إلغاء سيطرة فئوية من دون إقامة أخرى، بل والانفتاح على أفضل الصيغ اللامركزية لعيش التعدد الاثني والطائفي والمناطقي في سوريا. 

لكن خطأ الاسلاميين بقي أكثر كارثية. فالمدرسة الاخوانية، تعاملت مع «التسنن» كمعطى انتصاري حتمي في سوريا، والمدرسة السلفية الجهادية تعاملت مع المأساة السورية على أنها دليل إثبات على أن المسلمين السنة ليسوا مسلمين سنة كفاية، وينبغي إعادة ضخ الاسلام والتسنن لهم. 

نتيجة كل هذا وخيمة. وخيمة لكن ليس الى الحد الذي يمكن فيه للنظام وحلفائه الغاء «الواقعة الأكثروية السنية»، رغم كل تهجير ورغم كارثية المقاربتين الإخوانية والسلفية الجهادية للمسألة السورية. لم يعد النظام «مختلطاً» بالمعنى المبين أعلاه. يحتاج لـ»العملية السياسية» لإعادة تخليط نفسه، لكن الواقع لم يعد يسمح له جدياً بذلك. ما الذي يمكن أن يسمح به الواقع السوري أصلاً؟ الحلول الاستراتيجية الواضحة بعيدة عن المتناول، لا بحسم عسكري ولا بحل ديبلوماسي شامل. المدخل الأساسي هو وضع مؤشر للعنف، وللعنف التناحري بين المناطق والطوائف في سوريا، والسعي لتخفيفه تدريجياً. لخمس سنوات لم ينجح اتفاق وقف إطلاق نار واحد. الحروب الاهلية في أماكن أخرى، ومنها لبنان، لم تكن كذلك. كانت تكثر فيها فترات الهدنة. لكن بشار الاسد لا يستطيع ذلك. من غير الواضح كيف يمكن لأعدائه الميدانيين إسقاطه حالياً، لكنه من غير الممكن أن يبرم اتفاق وقف اطلاق نار واحد – باستثناء إجلاء فصيل في هذه المنطقة او تلك، ولا يمكن لوقف اطلاق نار ليوم واحد ان يتعايش معه.