Site icon IMLebanon

السوريون ونتائج الانتخابات النصفية الأميركية

 

منطقياً، يفترض أن يكون السوريون اليوم أقل الشعوب اهتماماً بالانتخابات النصفية الأميركية، ربما لأن محنتهم وشدة ما يكابدونه قد وصلا إلى حد تبدو معه متابعة ما يجري في الولايات المتحدة نوعاً من الترف، وربما لأنه لا فرق عندهم، إن تمكن الديمقراطيون من نيل الأكثرية أم حافظ الجمهوريون على تفوقهم، فقد جربوا الطرفين وكانت النتائج مخيبة للآمال في مساندة حقوقهم وتخفيف معاناتهم، وربما لأن المنكوبين منهم خير من تلقنوا درس مأساتهم، وتعلموا خطورة التعويل على العامل الخارجي أو الاعتماد عليه في معالجة أزماتهم، ما دام قد خذلهم في حماية المدنيين العزل، وفي ردع العنف الدموي والتدميري المنفلت، الذي أطبق على حياتهم لسنوات طويلة، فكيف في لعب دور إنقاذي كان ينتظر منه! وربما أخيراً؛ لأن ثمة ثقافة سلطوية انتشرت بين صفوفهم تحكمها عقلية تآمرية، تسخر من أي خصومة أو خلاف في البيت الأميركي، وتعتبر الأمر مجرد لعبة أو مسرحية لتبادل الأدوار، ويريحها تكرار عبارات تصف الحزبين الجمهوري والديمقراطي بوجهين لعملة واحدة، أو تصور أميركا ككتلة متراصة من دون الحاجة إلى فهم تفاوت المصالح والسياسات بين القوى والنخب المسيطرة، وأيضاً بينها وبين فعاليات ومؤسسات مدنية لا مصلحة لها في معاداة الآخرين.

ورغم ما سبق، فإن ثمة نقطتين أثارتا لدى كثير من السوريين تساؤلات يحدوها بعض الرهان على تأثير إيجابي، قد يترتب على نتائج الانتخابات النصفية الأميركية تجاه حاضرهم ومستقبل الصراع في بلادهم.

أولاً، تصح قراءة نجاح الديمقراطيين في نيل أكثرية مجلس النواب، بأنها انتصار شعبي ومعنوي لهم ضد نهج الرئيس دونالد ترمب، ولنقل: اعترافاً من أهل البيت بعدم جدوى سياسته الخارجية، وبضرورة تجميدها أو تغييرها؛ خاصة بمستوى انشغاله بالضغط على إيران ومحاصرتها، ثم بخيار الابتعاد عن أوروبا والتقرب من القيادة الروسية؛ لكن تصح أيضاً قراءة هذه النتيجة بتأثير معاكس، وأنها قد تدفع الرئيس الأميركي نحو التشدد، وتعزيز إصراره على وضع رؤيته للدور الخارجي الأميركي موضع التنفيذ خلال العامين المتبقيين من ولايته، ليس فقط لأنه يحظى دستورياً بصلاحيات واسعة في تقرير السياسة الخارجية، مقارنة مع صلاحياته في السياسة الداخلية التي باتت محكومة بأغلبية ديمقراطية قادرة على إعاقة أي أجندة أو خطط لا تتفق مع برنامجها وحساباتها، أو بسبب بنية ترمب الشخصية التي عادة ما تأبى الاعتراف بالهزائم، وتميل إلى التصعيد والتحدي، وإنما أساساً بدافع التعويل على نجاح تلك الرؤية في إحداث فارق مهم، يمكِّن سيد البيت الأبيض من استرداد ما يحتاجه من أصوات الناخبين كي يجدد ولايته الرئاسية، ما يقود إلى ترجيح أن يشهد الإقليم والمشرق العربي خلال العامين القادمين مزيداً من الضغط الأميركي على طهران، اقتصادياً وسياسياً، حتى تطويع موقفها من الملف النووي، وتحجيم دورها التدخلي، ويعني تالياً بالنسبة للسوريين ارتباك وتأزم الوجود الميليشياوي الإيراني في بلادهم، وانحسار قدرته موضوعياً على فرض أجندته، ما قد يساهم، إن اقترن بحرص واشنطن على إبقاء قواتها في سوريا وتنشيط دورها، في تقليص هامش مناورة النظام الحاكم وحلفائه، وربما كسر حال الجمود في مسار الحل السياسي.

ثانياً، يخلص البعض إلى أن صعود الشعبوية في أوروبا والعالم لم يكن صدفة؛ بل ترافق مع وصول ترمب إلى السلطة، ومع الترويج لنزعاته العنصرية، ولانكفاء مزعوم لدور واشنطن عالمياً، الأمر الذي شجع على استنتاج أن نتائج الانتخابات النصفية الأميركية قد وجهت صفعة قوية لهذه الظاهرة، بما يفضي إلى إضعاف الخطاب العدواني واللهجة التصعيدية الترمبية ضد المهاجرين، إنْ في دعوته لبناء جدار مع المكسيك واستخدام كل الوسائل بما فيها القتل للحد مما يعتبره غزواً لأميركا، وإنْ في لغة التهويل والتخويف التي يوظفها ضد اللاجئين، والتجني عليهم بتحميلهم كل الويلات والأزمات التي تعتمل في المجتمع، الأمر الذي قد يفتح طاقة أمل في وقف تدهور الموقف الشعبي الغربي من اللاجئين السوريين، والذي بلغ أوجه في نيل بعض قوى اليمين العنصري المعادية لهم حصصاً لافتة في غير برلمان أوروبي. وما يزيد الأمر وضوحاً انكشاف الصراع بين رؤيتين متعارضتين في الموقف من الكائن البشري، بين أكثرية تشريعية ديمقراطية تعترف بالمواطنة وبالتعددية والتنوع، ولو جاء هذا الاعتراف عند البعض من قناة التوظيف المصلحي والانتخابي، أكثر منه من القناة الأخلاقية والإنسانية، وبين الإدارة التنفيذية للجمهوريين التي تريد الارتكاس بالوقائع والتاريخ إلى زمن غابر، وتنظر إلى المستقبل من زاوية التفوق العرقي والتمييز البغيض بين الناس تبعاً لمنابتهم!

واستدراكاً، لا يمكن قراءة نتائج الانتخابات النصفية الأميركية التي جرت في مواجهة مناخ يحتدم بظواهر العنصرية والشعبوية، وأوصلت شخصيات من مختلف الإثنيات والأديان إلى الكونغرس، وأوضحها انتخاب امرأتين مسلمتين، إحداهما من أصل فلسطيني والأخرى مهاجرة صومالية، لا يمكن قراءتها كمجرد انتخابات برامجية على أسس اقتصادية وسياسية، وإنما كانتخابات ذات بعد أخلاقي وحقوقي، تضيء على مجتمع المواطنة وضرورة احترام الآخر المختلف، ككائن متساوٍ، مادياً وروحياً، بغض النظر عن قوميته ودينه وجنسه، الأمر الذي يشجع غالبية السوريين المنكوبين على التمسك بمفاتيح خلاصهم، مرة أولى، عبر ترميم الثقة بدورهم السياسي وقدرتهم على تقرير مصائرهم، والتي هتكها العنف السلطوي المنفلت والعسكرة الإسلاموية، بما في ذلك تعرية العقلية الوصائية التي عانوا منها طويلاً، ودأبت على خلق شعور عام من دونيتهم كمواطنين، وبأنهم بشر قصر عاجزون عن اتخاذ القرارات السليمة، ومرة ثانية، في بناء خطاب صحي وسلوك ندّي تجاه مختلف الجماعات الدينية والقومية التي تشاركت العيش في هذا الوطن منذ مئات السنين، خطاب وسلوك يحترمان خصوصية المكونات المتنوعة في المجتمع السوري، ويضمنان لها حقوقاً متساوية، ويشجعانها على معالجة الشروخ المؤلمة التي افتعلها العنف والتعبئة المتخلفة، طائفياً وإثنياً، كي تتجاوز حساباتها الضيقة نحو تقارب طوعي يذود عن مصالحها وحقوقها الجمعية، في مواجهة منطق الغلبة والتمييز ولغة القهر والإرهاب.