في مثل هذه الايّام، يفترض ان نتذكّر المحاولة الأخيرة، والوحيدة ربما، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا. عمر هذه المحاولة سبعة وخمسين عاما. ففي الثامن والعشرين من أيلول – سبتمبر من العام 1961 حصل الانفصال وانفرط عقد الوحدة المصطنعة التي قامت في العام 1958 بين مصر وسوريا. تنفست سوريا الصعداء سنتين ونصف سنة من أيلول – سبتمبر 1961 الى الثامن من آذار – مارس 1963 حين حصل انقلاب عسكري وقفت خلفه مجموعة من الضباط أدخلت سوريا في نفق مظلم ليس ما يشير الى انّها ستخرج منه يوما.
في العام 1961، انهى ضباط سوريون الوحدة التي أسست للمأساة التي نشهدها اليوم. لم يستول هؤلاء الضباط على السلطة، بل سلموها الى مجموعة من المدنيين الذين يتمتعون بمقدار كبير من الشجاعة والاخلاق والقيم الحضارية بسبب الخلفية الاجتماعية قبل أي شيء آخر. أعاد هؤلاء الامل الى السوريين بإستعادة بلدهم عن طريق حكومة شرعية ورئيس للجمهورية يتمتع بقبول حقيقي من الناس العاديين كان اسمه ناظم القدسي. كان في الواجهة في تلك المرحلة رجال مثل مأمون الكزبري ومعروف الدواليبي وآخرون يعرفون العالم ويعرفون المنطقة ويعرفون على وجه الخصوص معنى استيلاء ضباط مفجوعين جاؤوا من الريف الى السلطة.
كان يوم الثامن والعشرين من أيلول – سبتمبر 1961 بمثابة اشعال شمعة في الظلام السوري الذي اخذ مداه بعد الوحدة مع مصر التي أعلنت في شباط – فبراير 1958. كانت تلك السنة من أسوأ السنوات التي مرّت على العالم العربي. أسست للنظام الأمني في سوريا. وشهدت الانقلاب الدموي في العراق على العائلة المالكة. وشهدت احداثا لبنانية سميت «ثورة 1958» على الرئيس كميل شمعون الذي ارتكب خطأ كبيرا استفاد منه معارضوه المدعومون من جمال عبد الناصر عندما رفض القول صراحة انّه لا يسعى الى «التجديد»، أي الى تمديد ولايته الرئاسية.
ما حدث ابتداء من العام 1958 وما وضع الانفصال حدّا، موقتا، له كان تسليما لسوريا شيئا فشيئا الى الاجهزة الأمنية باسم شعارات فارغة من نوع الوحدة العربية والمحافظة عليها واحكام فكّي الكماشة على إسرائيل. كانت اسرائيل لا تزال وقتذاك، بعد عشر سنوات على اعلان الدولة، على جزء من ارض فلسطين فقط. كانت الضفّة الغربية لا تزال جزءا من الأردن ومعها القدس الشرقية. كان الجولان سورياً وكانت سيناء مصرية، كذلك قطاع غزّة.
أسست الوحدة المصرية – السورية للكارثة القادمة التي توجت بحرب حزيران – يونيو 1967 التي لا يزال الشرق الاوسط يعاني من آثارها. وحده لبنان عرف كيف يحمي أراضيه من إسرائيل في 1967، لكن جمال عبد الناصر الذي رعا اتفاق القاهرة في العام 1969 ادخله، غصبا عنه في دوامة صراع خاسر ما زال يدفع ثمنه الى اليوم بعد حلول السلاح غير الشرعي لميليشيا مذهبية تابعة لإيران مكان السلاح الفلسطيني الذي ادّى المطلوب منه مرحلة معيّنة. تكفل اتفاق القاهرة بتغيير التركيبة الاجتماعية والسكانية في لبنان ومهّد للوصاية السورية التي مهدّت بدورها للوصاية الايرانية التي يعيش البلد في ظلها حاليا.
كان عهد الانفصال قصيرا. يمكن اعتباره الآن الفرصة الضائعة امام سوريا. فمع انتهاء هذا العهد بالطريقة التي انتهى بها، أي بانقلاب عسكري قاده من خلف وبذكاء ودهاء ضباط علويون مثل حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمّد عمران، قضى على كلّ امل بأن تعود سوريا للسوريين يوما. مع نهاية الانفصال، بدأت هجرة العائلات الكبيرة من سوريا. كان لبنان الذي تمتع باستقرار كبير في تلك الفترة، بفضل المحاولة التي قام بها الرئيس فؤاد شهاب من اجل تأسيس دولة عصرية وتحقيق حدّ ادنى من العدالة الاجتماعية والتساوي بين المناطق، المستفيد الاوّل من هجرة الادمغة السورية ومعها الرساميل الكبيرة من البلد الجار. ما بدأ من نشر للبؤس في سوريا ايّام الوحدة، خصوصاً عبر قرارات التأميم، استمرّ بعد سقوط عهد الانفصال. ثم بدأ نشر البؤس في الثامن آذار – مارس 1963، ما زال مستمرّاً الى اليوم. لم يعد مسموحا لسوري يتمتع بحدّ ادنى من الكفاءة تأسيس مشروع ناجح من ايّ نوع في أيّ مجال من دون حماية اهل السلطة، أي أولئك الذين ينتمون الى الطائفة الحاكمة في عهد حافظ الأسد او العائلة الحاكمة في عهد بشّار الأسد.
كانت السنة 1961 مفصلية في التاريخ الحديث لسوريا. كان سنة الامل والفرصة الأخيرة. كانت محاولة لاعادة بناء سوريا وإعادة الحياة الى المدن الكبيرة التي بدأت تفقد بريقها شيئا فشيئا. بدأ القضاء على كلّ ما له علاقة بالمدينة الكبيرة في أيام حكم البعث في 1963. من اوّل صفات البعثي انّه ناقم على المدينة وعلى كلّ من هو ناجح في أي ميدان من الميادين. كانت هناك بعض الاستثناءات مثل صلاح البيطار الذي ما لبث ان فقد حياته بعدما استفاق على ما ارتكب باسم البعث في حق سوريا والسوريين وتنبه الى ذلك. لم يحصل ذلك الّا بعد فوات الاوان للأسف الشديد. للتذكير فقط، اغتيل صلاح البيطار ابن حيّ الميدان الدمشقي وأحد مؤسسي البعث مع ميشال عفلق في باريس بواسطة مسدس مزود بكاتم للصوت في العام 1980.
مسكينة سوريا التي ما زالت تدفع في أيامنا هذه ثمن سنوات الوحدة مع مصر قبل ستين عاما. لا يمكن لوم السوريين على كلّ تلك الحماسة للوحدة في حينه. فالوحدة من الناحية النظرية كانت شعارا يستهوي ما يسمّى «الجماهير» التي كانت تتحول الى بحر هائج ومائج عندما كان يأتي جمال عبد الناصر الى دمشق. كانت الهستيريا السورية تمتد الى لبنان أيضا.
في المقابل، يمكن لوم السوريين على انّهم لم يسعوا الى انقاذ عهد الانفصال. انّهم يدفعون اليوم ثمن ذلك الفشل وثمن عدم الاستفادة من تجربة الوحدة مع مصر حين اصبح يتحكّم برقاب الناس ضابط حاقد على العالم من مستوى عبد الحميد السرّاج.
مع مرور الايّام ونهاية عهد الانفصال والانفصاليين او هربهم وتشتتهم في كل انحاء المعمورة، تبخر كلّ امل في انقاذ سوريا. كانت سوريا مؤهلة لان تكون دولة قادرة على لعب دور طليعي على الصعيد الإقليمي بفضل ثروة الانسان فيها وحيوية اقلياتها، خصوصا المسيحيين والدروز والاسماعيليين منهم… فاذا بها تتحول الى بلد مدمّر بكل ما في تلك الكلمة من معنى. لم يعد من مكان في سوريا لمدينة مثل دمشق او حلب او حمص او حماة او اللاذقية. لم يعد من مكان سوى لبحث عن فرصة جديدة تشبه فرصة العام 1961، وهي فرصة لن تتكرّر نظرا الى انّها باتت اقرب الى سراب من ايّ شيء آخر.