تدخل الأزمة السورية مرحلة جديدة. «عاصفة الغوطة الكيماوية» و «الرد الأطلسي» ينقلانها إلى مشهد استراتيجي آخر. استهدفت الضربة الأميركية – البريطانية – الفرنسية البرنامج الكيماوي السوري وقواعد ومراكز ومستودعات عسكرية وبحثية مرتبطة به. إنها الموجة الأولى أو الرسالة الأولى التي يفترض ألا تقتصر نتائجها على تدمير قدرة النظام في دمشق على استخدام الأسلحة المحظورة دولياً. لا معنى لها إن لم تستثمر سياسياً. وكان سيل التصريحات والمواقف الدولية التي سبقت الحدث أجج الصراع بين موسكو وواشنطن. تداولت الدوائر الأميركية شروطاً وضعتها إدارة الرئيس دونالد ترامب لتحاشي العمل العسكري. بالطبع، لم تقل الدول الثلاث التي تولت تنفيذ العمل العسكري بتأييد واضح من حلف «الناتو» أن هدفها إسقاط النظام في دمشق. ولم تقل أنها على استعداد لمنازلة روسيا. ولا هذه ادعت أنها ستنخرط في المواجهة لحماية هذا النظام. الطرفان كررا الحرص على رفض المنازلة المباشرة. لكن الرئيس ترامب اعتبر أن هذه الضربة إثبات على فشل موسكو في الوفاء بوعدها منع لجوء النظام السوري إلى استخدام الكيماوي. وعبر مداورة أن ما حدث موجه أيضاً إلى الرئيس فلاديمير بوتين الذي تلقى إهانة كما ذكر سفيره في نيويورك!
لم يكن ممكناً التراجع عن قرار الرد. وسياسة الغموض التي اعتمدتها واشنطن ولندن وباريس فرضتها اعتبارات عسكرية بحتة. وكان واضحاً أن خيار اللجوء إلى العمل العسكري وحده على الطاولة، ولا خيارات أخرى، كما قالت الناطقة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز بعد اجتماع مجلس حرب الرئيس ترامب. وعبرت بريطانيا عن تصميمها على رد فعل دولي على نظام الرئيس بشار الأسد لمنعه من استخدام السلاح الكيماوي مستقبلاً. هذا ما صرحت به تريزا ماي رئيسة الوزراء التي تخوض «معركة كيماوية» مع موسكو بعد اتهامها بتسميم الجاسوس الروسي سكريبال في أراضيها. ونقلت هذا الملف إلى مجلس الأمن. ومثلها الرئيس الفرنسي إيماونويل ماكرون أعلن أن الرد على دمشق «سيكون في الوقت الذي نختاره». وحتى تركيا نادى قياديوها بوجوب إبعاد الرئيس الأسد من رأس السلطة والانتقال إلى مرحلة الحل السياسي. بدا أن الجميع كانوا ينتظرون موقف واشنطن. وموقف هذه لم يكن غامضاً. منشأ هذا الغموض تغريدات الرئيس ترامب ورد فعله السريع والتلقائي وغير المحسوب، تماماً مثلما فعل آخر الشهر الماضي عندما أعلن الانسحاب سريعاً من سورية. لم يرجع إلى أركانه الذين يقتنصون الفرصة الآن لترسيخ استراتيجية واضحة حيال هذا البلد والمتصارعين فيه وعليه. لن يخرجوا منه كما توقع منافسوهم وخصومهم. بل يعملون على إعادة تصويب الموقف. وزير دفاعه جيمس ماتيس الذي يعرف أن ضربة عسكرية كتلك التي استهدفت مطار الشعيرات قبل سنة لن تثمر ولن تبدل في واقع الحرب والحلول السياسية المتداولة. واستخدام النظام السلاح المحظور في الغوطة لم يكن المرة الثانية أو الثالثة والرابعة… ولم يتحرك المجتمع الدولي لردعه. بل إن العالم كان إلى أيام يتفرج عاجزاً على ما كان يجرى في ضواحي دمشق الشرقية والجنوبية.
الجنرال ماتيس صوب عشية الضربة مباشرة على موسكو. كما فعل رئيسه بعد دقائق على انتهائها. اتهمها بالتواطؤ مع دمشق. وهو لم يخرج عن شبه إجماع دولي يتهمها بالمسؤولة عما حصل ويحصل في سورية بسبب تعطيلها مجلس الأمن. وهو ما دفع الغرب إلى التحرك خارج إطار المنظومة الدولية. وأعلن بوضوح لا لبس فيه ولا غموض ما يمكن اعتباره سياسة جديدة أو إحياء لموقف قديم. أكد التزام بلاده إنهاء الحرب في بلاد الشام على أساس جنيف والقرارات الدولية. وكشف موقفه هذا أن العاصفة الحالية يجب أن تثمر. وأنها ليست «زوبعة» أثارها الرئيس ترامب وستهدأ قريباً، كما توقعت خطأ دوائر روسية لجأت إلى لعبة الوقت لتنفيس الاحتقان. وأن الولايات المتحدة ليست دولة عاجزة ترتضي بما يوزع عليها. ولا بد من قلب موازين القوى. لا بد من إسقاط «ورقة القوة والسلاح» التي يتوكأ عليها الرئيس بوتين لمقارعة أميركا وأوروبا وتعديل النظام الدولي… بالقوة والسلاح. وقد حذر قادة روس من أن الضربة هدفها «تدمير العملية السياسية برمتها» في بلاد الشام. وهم أصابوا إذا كانوا يقصدون بذلك خطة الرئيس فلاديمير بوتين ومشروعه في سورية. فما تريده إدارة ترامب اليوم من وراء الضربة هو تغيير قواعد اللعبة التي أرساها الكرملين طوال السنة الماضية. الصقور فيها غاظهم تقويض الرئيس الروسي جميع القرارات الدولية معولاً على الحسم العسكري، وعلى تحالف مع تركيا وإيران صاحبتي النفوذ على الأرض. وعلى تفاهم مع إسرائيل وحتى الأردن ليكونا بعيدين من موقف الولايات المتحدة. وأزعجهم سوء تقديره للانكفاء الأميركي حتى أخرج نظيره ترامب فأعلن فجأة قبل أيام أنه قرر الانسحاب تاركاً له ولشريكيه تحمل الأعباء.
والواقع أن الكرملين خرج على تفاهمات أبرمها العام الماضي مع البيت الأبيض قضت بتقسيم سورية مناطق نفوذ للمتصارعين في هذا البلد من أجل وقف الحرب والفصل بين المتحاربين برقابة أممية لحدود هذه المناطق، في انتظار نضج التسوية السياسية. هكذا، قامت «الجبهة الجنوبية» على أساس تفاهم مع أميركي – روسي – أردني (وإسرائيلي ضمناً) على أن تكون لتركيا حصتها في الشمال، ولإيران مواقعها مع النظام، وللكرد «إدارتهم». لكن ما حدث لاحقاً أن موسكو فتحت مسار آستانة وقررت «مناطق خفض التوتر». ثم بدا أن أنقرة التي توغلت شمال سورية إلى عفرين واجهتها دعوات من «شريكيها» في هذه المناطق بتسليم منطقتها إلى قوات النظام. وكانت إيران نادت بـ «تحرير» شرق البلاد وتقدمت نحو الجنوب. وكان رد الأميركيين قاسياً بضرب قوات لميليشيات النظام وحلفائه وعناصر روسية غير نظامية تقدمت شباط (فبراير) الماضي نحو مواقع لـ «قوات سورية الديموقراطية»، وألحقت بها خسائر بالعشرات وقيل بالمئات. وتضاعفت الغارات الإسرائيلية على مواقع تعتقد بأن لإيران وحلفائها قواعد فيها. وكانت هذه العمليات العسكرية نذير اعتراض على دور روسيا وابتعادها من التفاهمات السابقة، خصوصاً في ما خص التمدد الإيراني. وجاء مؤتمر سوتشي، على رغم فشله، كأنه إصرار روسي على التفرد بالتسوية. وجاءت قبل أيام قمة أنقرة لتؤكد هذا التوجه.
ما قد تسعى إليه إدارة ترامب من وراء هذه العاصفة العاتية هو وقف كل المسارات التي نهجتها موسكو بعيداً من المعنيين الآخرين. أي إن المواجهة القائمة لا تستهدف النظام السوري وبرنامجه الكيماوي بقدر ما تستهدف السياسة الروسية برمتها، وربما وضع حد لطموح الرئيس بوتين في استخدام سورية منصة انطلاق إلى المنطقة كلها. لذلك، يشعر سيد الكرملين الذي اتهمته لندن بتسميم الجاسوس سكريبال وابنته فأشعل «حرباً ديبلوماسية» بالطعنة والإهانة. لم يثمر تحذيره في حمأة التوتر إلى التحذير من «أن الوضع الدولي يزداد فوضوية». وخاب أمله بأن «تكون للفهم الإنساني السليم اليد العليا في نهاية المطاف، وأن تتحرك العلاقات الدولية في اتجاه بناء». وكان ملفتاً أن نظيره الأميركي الذي يرفع شعار «أميركا أولاً» لا تروقه العودة إلى الحرب الباردة، لذا دعاه إلى وقف سباق التسلح، مذكراً إياه بأن «روسيا تحتاج إلينا للمساعدة في دفع اقتصادها، وهذا أمر سهل القيام به». ولعله أراد تذكيره بأسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ لا يكفي التوازن العسكري والنووي بين بلديهما ليدفع روسيا إلى مقارعة أميركا ومشاركتها على قدم المساواة في إدارة شؤون العالم، فيما اعترفت حكومتها أخيراً بأن الوضع الاقتصادي دقيق وصعب بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية.
السؤال اليوم هل تمضي إدارة ترامب فعلاً في سياسة الانخراط بديلاً من الانكفاء أو العمل على الانسحاب باكراً، كما صرح ترامب قبل أسبوعين، وهو انسحاب يقود إلى الابتعاد من الشرق الأوسط كله؟ فالكل متفق على أن عشرات الصواريخ التي ضربت مطار الشعيرات قبل سنة لم تغير ولم تبدل شيئاً. هل يدفع الخيار العسكري أميركا وروسيا إلى تفاهمات جديدة في شأن سورية تتناول مستقبل نظام الأسد والوجود الإيراني الذي أصابته شظايا الضربة الصاروخية فجر السبت؟ وكانت غارة إسرائيلية على مطار تيفور كبدته خسائر فهدد بالثأر، فحذر وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان من أن نظام الرئيس الأسد والأسد نفسه «سيزولان من الخريطة والعالم إذا حاول الإيرانيون ضرب إسرائيل أو مصالحها من أراضي سورية». حتى الآن لا يبدو أن روسيا سترضخ. بل ستعمل على الرد على التحدي و «الإهانة». لكن المعادلة قاسية ومعقدة. فواشنطن لم تتراجع ولن تتراجع. بل جددت دعوة موسكو إلى الكف عن دعم النظام السوري والعودة إلى ممارسة دورها في ترسيخ السلم والاستقرار. أي إنها تدعوها إلى تغيير سلوكها وسياستها. وهو مسار لا يمكن الرئيس بوتين سلوكه. ليس سهلاً تسليمه بتقليص دور بلاده في سورية بعد كل الجهود التي بذلها على مدى أكثر من سنتين. مثلما ليس سهلاً عليه الذهاب إلى حرب مباشرة مع الأطلسي الذي أعلن تأييده الضربة الأخيرة… فهل يعود إلى قاعدة جنيف حلاً وحيداً لأزمة سورية التي أكد الوزير ماتيس التزام بلاده وقف الحرب فيها على أساس قرارات المجتمع الدولي؟ أم يواصل نهج اللجوء إلى أساليب سوفياتية بائدة ليرد بالوكالة على الإهانة؟ وأين سيكون الرد؟ وهل يشرك شريكه الإيراني في رفع التحدي؟