تثبت التجربة التاريخية أن موقف النظام السوري ودوره كانا حاضرَين دائماً على طاولة التقدير والقرار في كيان العدوّ لدى دراسة خياراته العدوانية على لبنان. ويعود ذلك الى خصوصية الموقع الجغرافي لسوريا والنتائج التي يمكن أن تترتّب على دورها في مواجهة العدوّ، سلباً أو إيجاباً. وينسحب ذلك أيضاً على القوى الحاكمة فيها بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. لذلك، فإن أكثر الأسئلة تداولاً بعد التحوّلات السورية، تتمحور حول احتمال عودة إسرائيل الى شن حرب جديدة على المقاومة ولبنان في هذه المرحلة؟
يستند هذا التساؤل الى مبررات موضوعية تفرض مقاربتها والإجابة عليها، ويمكن إجمال خطوطها العامة بأنه في مقابل عوامل تجدّد الحرب، هناك أيضاً كوابح تساهم في استبعاد هذا السيناريو في ضوء المتغيّرات والنتائج التي شهدتها الحرب وأولويات ورهانات العدوّ بعد التحولات السورية.
العامل الرئيسيّ الذي يمكن أن يساهم في تعزيز إمكانية اندفاع العدوّ لشنّ حرب جديدة، هو أن إسرائيل لم تحقق أهدافها الاستراتيجية، وعلى رأسها القضاء على المقاومة، أو إضعافها الى المستوى الذي يسمح بإملاء شروطها على المقاومة، وصولاً الى شطبها من المعادلة الداخلية كقوة فاعلة في المشهد السياسي اللبناني.
ثانياً، أن تداعيات اتفاق وقف النار في الداخل الإسرائيلي كان سلبياً للغاية، وأحرج نتنياهو ودفعه الى التأكيد مراراً أن اتفاق وقف النار لا يعني وقف الحرب.
ثالثاً، لم تُخفِ القوى الفاعلة في سوريا، وعلى رأسها أحمد الشرع (الجولاني)، موقفها من المقاومة في لبنان وما يتفرّع عن ذلك من خيارات. على خلاف تجنّبه لأي موقف صريح ومباشر من إسرائيل واعتداءاتها وتحديد موقع سوريا في الصراع مع العدو، ويكفي هذا المقدار كي تتّضح ملامح الفرص الإسرائيلية إزاء سوريا (وبرز ذلك في تدمير منشآت الدولة وسلبها قدراتها الدفاعية، وفي التوغل البري) وإزاء لبنان.
هذه العوامل التي تتشكل من المحفزات والفرص الناتجة من إغلاق طريق إمداد المقاومة وتطويقها، تشكل أرضية مناسبة للعدوّ لأيّ خيارات مفترضة تبدأ من حدّ أدنى يتمثّل بمواصلة وتوسيع نطاق الخروقات كما يحصل… وصولاً الى تجديد الحرب على المقاومة ولبنان.
عوامل وكوابح
صحيح أنه لا يمكن تجاهل الفرص التي تبلورت في أعقاب التحوّلات في الساحة السورية، لمصلحة إسرائيل والولايات المتحدة في مواجهة المقاومة في لبنان والمنطقة. لكن النتائج والتداعيات ليست فورية وتلقائية، وإنما هناك العديد من المتغيّرات التي قد تؤخّر أو تحول دون السيناريوات الأكثر خطورة، على الأقل ضمن أفق زمني محدد، أما ما بعده فهو مرتبط بالكثير من المتغيّرات الدولية الإقليمية والمحلية أيضاً.
أولويّات واضحة لدى طرفَي الصراع تقود إلى ابتعادهما عن الحرب، لكنّ الكلفة تظلّ المعيار الحاكم لقرار تفعيلها
لو أن حزب الله هُزم (ولو بشكل غير حاسم) أو كان قريباً من الهزيمة، من منظور إسرائيلي، كان يمكن أن ترتفع احتمالات نشوب الحرب في أقرب وقت ممكن، وخاصة أن استكمالها سيكون أسرع وأقل كلفة. لكن ما حصل أن حزب الله كان وضعه الميداني أفضل بكثير ممّا كان عليه بعد الأيام العشرة الأوائل من الحرب (17 – 27 أيلول) والتي تعرّض خلالها لضربات هائلة، راهن العدوّ وواشنطن على أنها كفيلة بانهياره أو إخضاعه. ومن أهمّ العبَر التي استخلصها العدوّ في الأيام الأخيرة للحرب، أن حزب الله كان لا يزال يحتفظ بقدرات كبيرة تسمح له بمواصلة الحرب لفترة طويلة نسبياً، وأن مساره العملياتي سيبقى تصاعدياً… وخاصة بعدما أدخل حزب الله في نهاية الحرب تل أبيب والوسط الإسرائيلي ضمن دائرة الاستهداف بوتيرة عطّلت منظومة الحياة الاجتماعية والاقتصادية وسلبت الشعور بالأمن الشخصي والجماعي. ويعني ذلك أن مواصلة الحرب ستكون انطلاقاً ممّا وصلت إليه. وسيكون ذلك حاضراً بقوة على طاولة القرار السياسي والأمني في كيان العدو.
نجاح حزب الله بمنع العدوّ من تحقيق أهدافه الاستراتيجية لا يتعارض مع حقيقة أن العدوّ حقق إنجازات ميدانية وتكتيكية مهمة، وتحديداً ما يتصل بخط التّماس المباشر على الحدود مع فلسطين المحتلة. وهو معطى يقدر قادة العدوّ على ترويجه أمام الرأي العام، إضافة الى أنه يساهم في تقليص الحافزية لديه كون إبعاد حزب الله عن خط الحدود أصبح أكثر إلحاحاً، في أعقاب سابقة طوفان الأقصى والتحوّلات التي أحدثها في العقيدة الإسرائيلية.
من الواضح أن تقدير العدوّ يتركّز في هذه المرحلة على أن أولويات حزب الله ستتمحور حول إعادة الإعمار من جهة، وإعادة بناء وتطوير قدراته في ظل وجود عراقيل جدية غير مسبوقة ناتجة من التحولات السورية… ويعني ذلك، من منظور إسرائيلي، أن متغيّرات الساحة اللبنانية لا تفرض عليه الاندفاع نحو حرب جديدة. ومن أهم العوامل الكابحة في هذا المجال، هو إدراكه أنه استنفد رهاناته العملياتية خلال الحرب التي نجم عنها ما شهدناه من إنجازات وإخفاقات لكلا الطرفين.
وبعد التحوّلات السورية ارتفعت رهانات العدوّ من جديد على إمكانية تقييد خيارات حزب الله في الحد الأدنى، وعلى ما هو أبعد من ذلك انطلاقاً من المتغيّرات التي شهدتها الساحة السورية والسيناريوات المحتملة إزاء ما سيترتّب عليها من تداعيات على الساحة الإقليمية.
وقد حدَّد رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو أولويّات إسرائيل في مرحلة ما بعد الحرب، وفق الآتي: مواجهة البرنامج النووي الإيراني وإعادة ترميم الجيش وإنعاشه وتسليحه، مع ما يحمله ذلك من مؤشرات ورسائل. في السياق نفسه، فإن أولوية العدوّ أيضاً تتمثّل في منع حزب الله من إعادة بناء قدراته وتطويرها، وهو أمر تردّد كثيراً خلال الحرب وفي أيامها الأخيرة. لكن تحقيق هذا الهدف أصبح يمرّ الآن عبر الساحة السورية من دون حاجة ملحّة للتدخل العسكري المباشر منه. يُضاف الى ذلك أولوية منع استمرار إمداد المقاومة في الضفة الغربية، وليس سرّاً أن جزءاً مهماً من هذا الإمداد كان يتمّ أيضاً عبر سوريا، وهو ما سيتراجع أيضاً بعد التحوّلات السورية.
من جهة ثانية، وفقاً للعديد من التقارير والمواقف، تبيّن أن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب كان له موقفه أيضاً في ما يتعلق بانتهاء الحرب في لبنان، وشكّل ذلك دافعاً إضافياً للعدوّ من أجل التكيّف مع نتائج الحرب والذهاب نحو اتفاق لوقف الحرب… مع الإشارة الى أن الطرف الأميركي لم يكن متلقّياً إزاء ما كان يجري خلال الحرب، بمعنى أنه لا ينتظر ما يقدّمه له الإسرائيلي من تقارير إزاءها، بل كان شريكاً رئيسياً في إدارتها وتقديرات الوضع التي واكبتها إزاء آفاقها أيضاً. لذلك فإنّ أيّ قرار إسرائيلي في تجديد الحرب سيكون أميركياً أولاً بالضرورة، وخاصة أنه معنيّ جداً بنتائجها وتداعياتها وفي تقدير ما سيترتّب عليها… ولا يبدو أن هناك مؤشرات في هذا الاتجاه، بل قد يكون العكس هو الصحيح.
في الخلاصة، هناك الكثير من العوامل الى تساهم في استبعاد نشوب الحرب في المدى المنظور. لكن ذلك لا ينسحب بالضرورة على كون العدوّ أصبح أكثر جرأة واندفاعاً على مواصلة وتوسيع نطاق خروقاته واعتداءاته المحسوبة، انطلاقاً من تقدير تعزّز لديه بأن حزب الله سيكون أكثر حذراً. لكن هذا الاستحقاق يضع الدولة اللبنانية في موضع اختبار إزاء مدى فعالية الاستناد الى توقيع العدوّ على اتفاق وقف النار والالتزام بمندرجاته، وعلى الضمانات الأميركية والدولية في كبح العدوّ عن أيّ خروقات…