IMLebanon

النظام انتهى: طائف جديد او دوحة ثانية؟!

سواء استمرّ الحراك المدني الاعتراضي تحت مسمّى «الثورة الشعبية» أو أخمِد في مهده تحت مسمّى «المندسّين» أو ما شابه، فإنّ الثابت والأكيد أنّ النظام اللبناني الذي كان «يحتضر» قبل الهبّة الشعبية الأخيرة بات عمليًا بصيغته الحاليّة في خبر كان، وأنّ «المسكّنات» التي تُعتمَد في محاولةٍ لإعادة إحيائه لم تعد تنفع، لأنّ «الضرب بالميت حرام» بكلّ بساطة.

بهذه العقليّة والروحيّة فقط يمكن مقاربة الأحداث والمستجدّات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، بعيدًا عن كلّ الأفكار والأحكام المسبقة التي تحتمل الصواب والخطأ. فتحرّك المجتمع المدني بقيادة مجموعة «طلعت ريحتكم» قد يكون عفويًا نابعًا من «قرف» الشعب الذي لم يعد يمكن لأحدٍ في الطبقة الحاكمة وخارجها أن ينكره، كما قد يكون مدفوعًا من قبل قوى خارجيّة قرّرت استغلال «نقطة ضعف» اللبنانيين الذين يئنّون لإلحاق لبنان بمحور «الفوضى المتنقّلة» في المنطقة.

كلّ ذلك لا يهمّ. سواء كان الأمر عبارة عن «مؤامرة» كما يحلو للكثيرين توصيفه أو كان عبارة عن «انتفاضةٍ حقيقيّة»، وسواء كُتِب لها «الصمود» في وجه كلّ الضغوط والتدخّلات، فإنّ الأكيد أنّ الأمور لا يمكنها أن تستمرّ على ما هي عليه، والأكيد أنّ البحث عن «البديل» قد بدأ بصورةٍ جدية وعمليّة، خصوصًا أنّ غياب هذا «البديل» شكّل الثغرة الكبرى في جدار كلّ التحرّكات «المدنيّة» التي حملت شعاراتٍ كبيرة وواسعة وعريضة، ولكن من دون أيّ أفق تمثله «خريطة طريق» واضحة المعالِم.

مكامن الخلل في النظام أصبحت واضحة، ولم يعد تجاوزها ممكناً. فالدولة، العاجزة عن حلّ أزمة نفاياتها، والتي بات يمكن القول انّها «مفتعلة» في مكانٍ ما من قبل طبقةٍ حاكمة أرادت استغلالها لـ«تعزيز حصّتها» من «الكعكة» التي تمّ تقاسمها تحت مسمّى «المناقصات»، ولم توفّق في إرضاء الجميع من خلالها، عاجزة عمليًا عن تحمّل الحدّ الأدنى من مسؤولياتها، وهي نفسها العاجزة عن انتخاب رئيسٍ للجمهورية يملأ الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى، والذي يبدو أنّ الدستور يسمح ببقائه شاغرًا إلى أبد الآبدين، وهي عاجزة عن فتح مجلس النواب للقيام بواجبه التشريعي، وعاجزة عن إجراء انتخاباتٍ نيابيةٍ بأيّ قانونٍ قديمٍ أو جديد، وعاجزة عن إقرار قانونٍ عصري وحضاري قوامه النسبية أو غير النسبية، وعاجزة عن تفعيل العمل الحكومي الذي بات في وسع أيّ كان أن يعطّله ويجمّده، ولائحة عجزها تطول من دون شكّ بما لا يتّسع للمجلدات الكاملة أن تسردها بأكملها.

رغم كلّ مكامن الخلل هذه التي لا يمكن أن تُبقي دولة واقفة على رجليها، يصرّ البعض على المكابرة، ورفض أيّ إعادة نظر بالنظام القائم، هم الذين حوّلوا طرح المؤتمر التأسيسي لفزّاعة، والذين لم يروا في طرح «تطوير النظام»، الذي يفترض أن يكون طموح الجميع، ما هو أفضل حالاً، إلا أنّ هذه المكابرة لا يمكن أن تمتدّ إلى ما شاء الله، لأنّ الأزمة وقعت، والنظام لا يمكن أن يستمرّ بصيغته الحاليّة، وبات هناك خياران لا ثالث لهما، كما يؤكد معظم المراقبين، وهما اتفاق طائف جديد بكلّ ما للكلمة من معنى، أو تسوية جديدة على غرار تسوية الدوحة الشهيرة.

بالنسبة للخيار الأول، فهو من دون شكّ الخيار الأفضل إذا كان المطلوب علاجاً جذرياً وحقيقيًا للأزمة التي يعيشها الوطن، وإعادة بناءٍ للطبقة السياسية برمّتها، خصوصًا أنّ اتفاق الطائف برأي كثيرين هو أصل الداء الذي يشكو منه اللبنانيّون، وفيه تكمن جذور كلّ الأزمات الميثاقية والدستورية التي يواجهونها منذ سنوات، وهو الاتفاق الذي لا تزال شريحة واسعة من اللبنانيين ممثلة بالمسيحيين تقول أنّه أتى لتهميشها ومصادرة كلّ الحقوق والصلاحيّات، الأمر الذي يستوجب إعادة نظرٍ وتقييم قد يكون أوانها قد حان، بل تأخر كثيراً.

وإذا كانت الاعتبارات الطائفية والسياسية الحسّاسة المعروفة لا تزال تحول دون هذا الخيار، خصوصًا إذا كان رموز هذه الطبقة هم من ستناط بهم مسؤولية صياغة النظام الجديد، فإنّ كلّ الأجواء توحي بأنّ الحلّ قد يتخذ شكل «العلاج المؤقت» على طريقة «الهروب إلى الأمام»، كما حصل في اتفاق الدوحة الشهير بعيد أحداث السابع من أيار، وهو الخيار الذي، وللمفارقة، يُجمِع المراقبون على أنّه سيكون الخيار الوحيد المُتاح في نهاية المطاف، ولكن بعد مواجهةٍ ميدانيةٍ ما تتيح لأيّ فريق «قلب الطاولة» وبالتالي «فرض شروطه» بشكلٍ أو بآخر.

عمومًا، فإنّ الأكيد أنّ جرس هذه «التسوية» بدأ يُقرَع، وهو ما بدأ يتلمّسه مختلف الأفرقاء، الذين باشروا محاولاتهم لـ«تحسين شروطهم»، وهو ما برز بشكلٍ خاص من خلال التفاف السياسيين أنفسهم على الحراك الشعبي ومحاولتهم تبنّيه من خلال «التضامن» مع أصحابه، لدرجةٍ اختار المتابعون من يتظاهر ضدّ من ومن يتضامن مع من ضدّ من، إذا كان الجميع متفقين على أنّ الوضع لم يعد يُحتمَل بكلّ ما للكلمة من معنى.

وبانتظار هذه «التسوية»، فإنّ كلّ ما يُحكى هنا وهناك لا يعدو كونه «لزوم ما لا يلزم»، فلا صبر رئيس الحكومة تمام سلام، سواء نفد أو لم ينفد، يغيّر شيئاً في المعادلة، ولا اللون الأحمر الذي يصبغ البعض الحكومة السلاميّة به يمكن أن يؤثّر، ولا نأي بعض الأطراف بأنفسهم عن الأزمة وتنزيه أحزابهم عن المسؤوليّة يمكن أن يُحدِث فرقاً. كلّ هذه الأمور تصبح مجرّد «تفاصيل» عندما تدقّ «ساعة الحقيقة»، ساعةٌ يبدو أنّها باتت أقرب من أيّ وقتٍ مضى…