“صَلاحُ أَمرِكَ لِلأخلاقِ مَرجِعُهُ
فَقَوِّمِ النَفسَ بِالأخلاقِ تَستَقِمِ
وَالنَفسُ مِن خَيرِها في خَيرِ عافِيَةٍ
وَالنَفسُ مِن شَرِّها في مَرتَعٍ وَخِمِ” – أحمد شوقي
يصِف جوزف شومبيتر، عالم الاقتصاد الكبير، في كتابه “الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية” سنة 1942، نظرية “التدمير الخلّاق” بأنها الطفرة الصناعية التي تُحدث ثورة مستمرة في الهيكل الاقتصادي من الداخل، وتستمر في تدمير النظام القديم وإنشاء بنية اقتصادية جديدة في الوقت ذاته. تفترض نظرية التدمير الخلّاق أنه يجب تدمير الإجراءات والافتراضات الطويلة الأمد القديمة لإفساح المجال لاستغلال الطاقات والموارد من أجل الابتكار. تتعامل نظرية التدمير الخلّاق مع الاقتصاد على أنه عملية طبيعية ومتغيرة دائمًا، وهذا يَتعارض مباشرةً مع النموذج التقليدي الثابت في الاقتصاد. إذ لم يعد التوازن الهدف الأساسي للعمليات الاقتصادية، بل يُعاد تشكيل العديد من المتغيرات أو استبدالها بالابتكار والمنافسة. وكما توحي كلمة التدمير، لا بد من أن تنتج هذه العملية خاسرين ورابحين، وهكذا يخلق روّاد الأعمال والعاملين في التقنيات الجديدة حالة من عدم التوازن ويسلطون الضوء على فرَص الربح الجديدة، وبذاك يُترك الملتزمون بالتكنولوجيا القديمة عالقين.
إفترض شومبيتر، وعن حق، بأنّ النموذج الأساسي لأي مجتمع يستند إلى الاقتصاد ووسائل الإنتاج والاسترزاق، وهذا يعني أن مبدأ التدمير الخلاق الإبداعي ينطبق أيضًا على المنظومات الاجتماعية والسياسية، مع بعض التحفظات والاستثناءات، لكن بالنهاية فكلها تصبّ في منطق كسب الرزق. من ضمن الأمثلة البسيطة هي كيف حلّت البيوت الحديثة مكان الخيام او الكهوف، أو كيف حَلت أجهزة الهواتف الذكية مكان القديمة. لكن الأهم هو كيف تحل منظومات أكثر فعالية وإنتاجية مكان وسائل أخرى تقادَمت وقل إنتاجها بالمقارنة مع كلفة تشغيلها، وإلى ما هنالك من أمثلة أخرى في مختلف المجالات التي لا تعد ولا تحصى. لكنّ استنتاج شومبيتر كان أنّ العناد في الاستمرار في المنظومة القائمة بحجج شتى سيؤدي حتمًا إلى انهيارها فوق رؤوس مستخدميها، وفي الوقت ذاته يخسرون الوقت ويتأخرون في السباق لدرجة لا يمكن بعدها المنافسة.
هذا ما يحدث عندما تُعاند بعض المنظومات حركة الإبداع بحجّة الحفاظ على الاستقرار وعلى مصالح المُستكينين إلى المنظومة القائمة، فتتقادم وينخرها الصدأ لتصبح عصية على التطوير، وهكذا فعندما تنهار في لحظة واحدة ستكون من دون بدائل، وبالتالي يقع المنتمون إلى المنظومة في الفراغ والمجهول. هذا بالضبط ما حصل لنا وما زال في لبنان، فأصحاب الحل والربط، كما الذين يقع عليهم الحل والربط، أصبحوا معتادين على بديهيات الأمور في الحكم والإدارة والعلاقات، لدرجة لم يعد بإمكانهم ولا يرغبون أصلًا بتغيير المسار، مع علمهم أنه ذاهب إلى الكارثة المحتومة. من الأمثلة الحديثة كانت واضحة في الأيام الماضية في قضية التوقيت الصيفي! فمع عِلم الجميع بخطورة منظومة السجال الطائفي التافه، ومعرفتهم بكم من الأثمان العظيمة دفعوا في تاريخهم القديم والحديث بسببها وعلى خلفيتها، غرقَ معظمهم في الجدل الذي انطلق أولًا في أروقة أصحاب الحل والربط، ولكن ترددات الأمر عند عموم الناس كانت أخطر بكثير من تهافت قرارات المسؤولين.
لكن، ماذا يعني ذلك طالما أنّ قضية التوقيت الصيفي أشبعت تعليقًا وجدلًا وتم بالنهاية التراجع عنها؟ ما يعنيه هو أنه إن كان قرارًا ظرفيًا مثل التوقيت أوصَل البلاد إلى الاشتباك والمساجلة الطائفية المغرقة في الإسفاف، فكيف سيكون الوضع إن ذهبَ أصحاب الحل والربط إلى الاستجابة لِما هو محتوم للحصول على الأقل على قرض صندوق النقد الدولي، وبالتالي إحداث تغييرات بنيوية في تركيبة القطاع العام، مما يعني ذهاب أعداد لا تحصى من الموظفين الحكوميين إلى بيوتهم من دون بدائل تؤمن لهم المعيشة بالحد الأدنى. هذا يعني حتمًا تقويض منظومة الزبائنية التي أمّنت المصالح المتبادلة بين الزعيم والتابعين، ومن المنطقي أن تطال هذه الإجراءات، إن حصلت، طوائف فيها نسَب كبرى من الذين ستشملهم حملات الإصلاح. يكفي حينها أن يشير زعيم قبيلة طائفية إلى أتباعه، من دون الحاجة للتصريح، بالاحتجاج بشكل عنيف والتهديد بثورة “جياع” أو بالعودة إلى الحراب دفاعًا عن حقوق المستضعفين والمساكين الذين أمّنوا لزعيم القبيلة استِدامة ملكه، كما انتقال الورثة لأولاده وأحفاده.
ببساطة، هناك شراكة صلبة القواعد بين شريحة واسعة من المواطنين والقادة المَيامين لأنها مبنية على مصلحة مشتركة، فالزعيم يؤمّن الريعية لمؤيديه على حساب المصلحة العامة، فيما المؤيدين يؤمنون استدامة ملك الزعيم وتغطية فساده المالي والأخلاقي، أحيانًا لأنه من القبيلة الطائفية ذاته، ولكن الأمر عابر للطوائف عن ثبوت المصالح المشتركة القادرة على العبور من خلال كل الحواجز. يكفي أن نأخذ مثلًا كيف تحافظ منظومة الفساد والمصالح على أفرادها، لا بل تطالب بشراكتهم، حتى حين يحاولون الخروج من الشراك لسبب ما. لكنّ الأهم هو كيف عاد المواطنون لإنتاج نسخة معدّلة بشكل طفيف للمجلس النيابي، بالرغم من جوقات الزجل والشتائم التي أطلقها عشرات آلاف المتظاهرين في الساحات وعلى الطرقات بعد السابع عشر من تشرين بحق الزعماء ذاتهم الذين أعادهم شركاؤهم من المواطنين إلى مواقعهم.
ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أنه من المستحيل اليوم الأمل بالخروج من جهنّمنا من دون تدمير منظومة المصالح المشتركة بين الزعيم والمواطن المستفيد من الريعية. والريعية هنا تعني أن يعيّن موظف في موقع لا يستحقه، أو التوظيف في جهاز وهمي مُتخم أصلًا بالموظفين العاطلين عن العمل، أو أستاذ في مدرسة لا ينفع التلاميذ، أو مقاول وهمي يأكل على الطالع والنازل من مشاريع مضخمة أو كاذبة يؤمّنها له الزعيم مقابل الشراكة، وهنا أيضًا على حساب المصلحة العامة، ومن كان من الزعماء والقادة الميامين بلا خطيئة فما عليه إلا الذهاب إلى مجلس النواب مع نوابه لِفَضح كل ذلك، حتى ولو تعرّض له حراس المجلس، لأن السكوت على هذه المنظومة يعني المشاركة في استدامتها، فالساكت عن الحق شيطان هو أيضًا، حتى وإن تصَنّع أنه أخرس!
ما يحتاجه البلد لتهديم المنظومة البائدة وبالتالي بناء أخرى هو سلطة تنفيذية من النوع الفدائي المستعد لتلقّي شتائم المواطنين المشاركين في المنظومة البائدة، وبالتالي ألا يكون سَعي هذه السلطة الفدائية إلى خوض الانتخابات النيابية القادمة، لأن هذا السعي سيؤدي حتمًا إلى مسايرة واستدامة المنظومة التي يجب هدمها. لكن فضل هذه السلطة سيظهر بعد مدة من الزمن عندما تثبت المنظومة الجديدة الإصلاحية على حساب القديمة المُتهتكة.
“كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ”. (مت 7: 19).