لا حدود لسخرية القدر بنا. فما قضينا مئة عام نتظاهر ضده ونبكي منه هو ما نبكي عليه اليوم: اتفاق سايكس – بيكو. وما ناضلنا وقاتلنا للتحرر منه هو ما عاد الى بلداننا وما صرنا نطالب بالمزيد منه: التدخل العسكري الأجنبي. ما كان ثورات على الأنظمة الرجعية والحدود من أجل التقدم والوحدة هو اليوم سلسلة حروب أهلية ومحاولات لإقامة حدود داخل البلدان على قياس الطوائف والمذاهب والأعراق. وما كان طموحاً الى المواطنة في إطار العروبة، يطغى عليه اليوم اندفاع السلفيات التكفيرية في تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي وتنافس القوى الاقليمية على الأدوار فوق المسرح العربي. وما أشبه الليلة بالبارحة وأبعدها منها في آن.
يوم ١٦ كانون الأول عام ١٩١٥ كان السير مارك سايكس على موعد في مقر رئيس الوزراء البريطاني لتقديم اقتراحاته الى مجلس الحرب حول حل الخلاف على مستقبل السلطنة العثمانية حسب كتاب خط على الرمل للمؤرخ جيمس بار، وبعدما انتهى من عرض اقتراحاته لتقسيم بلاد الشام بين بريطانيا وفرنسا سأله بلفور: ماذا تريد ان تعطي الفرنسيين بالتحديد؟ ردّ سايكس: أريد رسم خط من آخر حرف في عكا الى آخر حرف في كركوك. المنطقة الزرقاء لفرنسا والحمراء لبريطانيا والبنّية أي فلسطين تحت الانتداب البريطاني أيضاً.
في ١٦ أيار ١٩١٦ اكتمل التفاوض بين السير مارك سايكس والمسيو فرنسوا جورج – بيكو الذي شغل منصب القنصل الفرنسي في بيروت، وجرى توقيع اتفاق أبقي سرّاً لثلاثة أسباب: أولها إخفاء تنكّر لندن لما وعدت به الشريف حسين عبر ماكماهون ولورنس من اقامة دولة عربية مستقلة. وثانيها ان الحرب كانت في منتصفها ولا ضمان لنتائجها. وثالثها ان روسيا كانت الشريكة الثالثة في تقاسم الكعكة العثمانية ممثلة بوزير الخارجية سيرغي سازونوف.
ولا مجال اليوم، وسط الأحاديث المستمرة عن سايكس – بيكو جديد، لتكرار ذلك المشهد الذي رسمته ونفذته قوتان ربحتا الحرب. فالحروب متعددة واللاعبون كثر دولياً واقليمياً، ولا أحد يستطيع أن يقول كما قال سايكس: بضربة خط غير عادية لعبت دوراً في تشكيل الشرق الأوسط الحديث. لا جون كيري، ولا سيرغي لافروف، ولا أي مسؤول أوروبي أو اقليمي. ولا أبو بكر البغدادي الذي أقام دولة الخلافة الداعشية.
ذلك ان اللعبة مفتوحة. ولا أحد يعرف كيف تنتهي الفوضى الدائرة. ولا كيف كنّا لو نفذت لندن وعودها لشريف مكة. لكن الكل يعرف ان أهم عامل قادنا الى الأوضاع المزرية هو فشلنا في بناء الدولة الحديثة ضمن حدود سايكس بيكو كما في إلغائها وبناء دولة الوحدة.