يبدو أن النظام السوري لم يكتشف بعد أن العالم كله، بعد السوريين والعرب طبعاً، اكتشف مناوراته وألاعيبه وخدعه ولم يعد لذلك يصدقه، فضلاً عن أن يتعامل معه باحترام. هذا الجهل، وربما التذاكي كما يقول البعض، جعل النظام يواصل أسلوبه اياه في الـــتلاعب والكـــذب متوهماً أن شيئاً منه يمكن أن ينـــطلي بعد على أحد في العالم، أو ربما حتى في سورية نفسها.
آخر البدع في هذا السياق، ما قاله النظام من أنه أبلغ الوكالة الدولية للأسلحة الكيماوية عن وجود ثلاثة مواقع لأسلحة كيماوية لم يكن قد كشف عنها للوكالة العام الماضي بموجب تعهده التخلي عن هذه الأسلحة وتسليمها للوكالة من أجل تدميرها. لكن متى تم ذلك؟ بعد 48 ساعة فقط على إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما قراره شن غارات جوية على مواقع ما يسمى «الدولة الاسلامية في العراق والشام» («داعش») في كل من سورية والعراق… أي تحديداً، كما فعل النظام نفسه في أيلول (سبتمبر) 2013 عندما أعلن تخليه عن ترسانته من هذه الأسلحة بعد قرار أوباما توجيه ضربة عسكرية للنظام على خلفية تجاوزه ما سمي «الخط الأحمر» عبر استخدام هذا النوع من الأسلحة المحرمة دولياً ضد الشعب السوري.
هل كان في ظن بشار الأسد مثلاً أن «اللعبة» الجديدة هذه يمكن أن تنطلي على أوباما، فيقرر مجدداً وقف شن الغارات على «داعش» في سورية، كما فعل سابقاً بعد وعد الأسد بنزع أسلحته الكيماوية والبيولوجية؟ أم أنه كان يتوهم أن مبادرته الآن لفضح الكذبة الأولى (اخفاء المواقع الثلاثة في ذلك الوقت) يمــــكن أن تقـــنع أوباما أو غيره من قادة التحالف العربي/الدولي الجديد للحرب على «داعش» بأن يتعاطى مع كذبته الثانية هذه (هل هي ثلاثة مواقع فقط؟) بالطريقة السابقة اياها؟
لا مبالغة في القول إن شيئاً من ذلك خطر على بال نظام الأسد، وأنه أغفل اعادة اثارة المسألة أو حتى الحديث عنها لأن أحداً في الوكالة الدولية للأسلحة الكيماوية، أو الولايات المتحدة نفسها، لم يأخذها مأخذ الجد… فالذي يعترف بأنه كذب مرة، انما يقول من خلال اعترافه انه يكذب أكثر من مرة.
ليس ذلك فقط، بل ان نظام الأسد الذي تعمد منذ الأيام الأولى للتظاهرات الشعبية السلمية ضده في آذار (مارس) 2011، إلصاق تهم مثل «الارهاب» و«العصابات المسلحة» و«الحرب الكونية» بها، حاول هذه المرة، وبالأسلوب نفسه، تصوير التحالف العربي/الدولي للحرب على «داعش» بأنه ليــــس سوى «انضمام» ولو متأخراً الى حـــربه هو ضد من يصفهم بالارهابيين والتفكيريين، وأنه على هذا الأساس يطرح لنفسه دوراً قيادياً في التحالف، أو أقله تنسيقياً معه، لتحقيق ما لم يتمكن من تحقيقه على مدى ثلاثة أعوام ونصف عام: ضرب الثورة السورية بدعوى ضرب تنظيم «داعش» وغيره من التنظيمات العاملة في داخل سورية.
ومن هنا عملياً جاءت «مناورة» أو «لعبة» أو «كذبة» النظام الثانية:
«أي اعتداء على الأراضي السورية (لاحظ كلمة «اعتداء») لا بد أن يتم بالتشاور أو بالتنسيق معنا»، قال وزير خارجية النظام وليد المعلم في مؤتمر صحافي متلفز عشية بدء طائرات التحالف بقصف مواقع «داعش» في سورية، والا فسيكون عندئذ انتهاكاً لما قال انه السيادة السورية.
وهذه، كما يبدو، قاعدة نظام الأسد الجديدة في العلوم السياسية: «الاعتداء» بالتشاور أو بالتنسيق مع المعتدى عليه ليس انتهاكاً للسيادة، فيما «الاعتداء» من دونهما انتهاك فاضح لتلك السيادة فضلاً عن أنه غير مقبول من جانب المعتدى عليه!
أما بعد مباشرة الغارات، فلم يجد النظام وأتباعه (وبخاصة إعلامه في لبنان) سوى ادعاء انها تمت بعلمه وبعد إطلاعه عليها وحتى التنسيق معه فيها. كيف؟ عبر رئيس وفده في الأمم المتحدة بشار الجعفري، ردد النظام أكثر من مرة وبأكثر من وسيلة.
وعندما نفت الولايات المتحدة ذلك، قال انه تبلغ الأمر من خلال معاون لوزير الخارجية الايراني زار دمشق آتياً من نيويورك.
في هذا الوقت كانت صحيفة «الوطن» السورية تصدر بعنوان عريض على صفحتها الأولى يقول بالحرف: سورية والتحالف الدولي في خندق واحد في الحرب على «داعش» وأخواتها.
ومن بين التعابيرالتي ابتدعت لتفسير ذلك، قول أحد الأتباع ان ما جرى هو أن النظام «الممانع» في دمشق أعطى هذه المرة اشارة «لا ممانعة» لعمليات التحالف في الأراضي التي يحتلها أعداء سورية من التنظيمات الارهابية والتكفيرية.
قد يفهم أن تكون هذه «اللعبة» محلية بحتة، بمعنى أنها موجهة الى الداخل السوري وحده ومن دون ما عداه، وباللغة القديمة الكاذبة المناورة اياها، لكنها تكشف في الواقع ليس فقط غياب النظام عن الوعي، فضلاً عن العالم وما يجري فيه، انما أيضاً عن الشعب السوري الذي بات يعرف الحقيقة عارية، بل يشاهدها بأم العــــين، بينـــما لا تني قيادته تقول له كلاماً يجافي هذه الحقيقة في شكل كامل.
… وهل سمع أحد، بعد ذلك كله، بقصة مذكرة الاعتقال التي أصدرها النظام بحق المغنية السورية أصالة، والتي أرسلها الى لبنان على أنها صادرة من الانتربول ليتبين أولاً أنها ليست كذلك، وبأن تهمة «التعامل مع العدو» (أي عدو لهذا النظام؟!) هي التهمة ذاتها التي توجه لكل من يعارض الأسد وعائلته؟
لا شك في أن نعت نظام بشار الأسد بأنه «غائب عن الوعي» لم يعد يفي بالحاجة، لا لغة للتعبير عن وضعه الحالي في العالم ومع الشعب السوري، ولا واقعاً على الأرض للبحث في كيف يمكن التعامل معه في المستقبل.