من التقاليد في الدول الديمقراطية أنه في مواجهة الأزمات الكبرى تتم العودة إلى الناس، لأنهم مصدر السلطة، فيجري التوجه إلى إجراء انتخابات مبكرة تحدد المسار اللاحق، وتسقط، أو تستقيل، الحكومات لإفساح المجال أمام إمكانية تقديم تركيبة حكومية تملك رؤية تمكّنها من كسر الاستعصاء واجتراح مسارات جديدة لمواجهة الأزمات… هذا المنحى غريب عن «صانعي» السياسة في لبنان، البلد الذي يواجه انهيارات لم يعرفها في تاريخه، فأقصى ما لديهم استنساخ هزلي لتركيبة سلطوية سرّعت انهيار البلد.
لنفترض جدلاً أن الأمور سارت على النحو الذي تريده النواة الرئيسية في السلطة؛ عنيت «حزب الله» وفريق رئاسة الجمهورية، فسيكون البلد أمام تكرار مشوّه للحكومة التي أسقطها الناس، بوصفها الحكومة التي سرّعت الانهيار العام في البلد اقتصادياً ومالياً، وفاقمت البطالة فدمرت كل عناصر الأمان الاجتماعي، فتم في ليل تعليب تركيبة حكومية لفرضها على البلاد والعباد لاستكمال أخذ لبنان إلى المجهول، والدليل قدمه الوزير باسيل الذي «تكفل» صياغة التركيبة الجديدة عندما كشف عن أن «الخطط والمشاريع جاهزة ومحضرة… وما على الحكومة إلا أن تُنفذ… وهي سيدة قرارها» (!!) إذن هناك من أعفى الحكومة من مهمة التفكير ودراسة الوضع وصياغة رؤية وأولويات، والأنكى كان إعلانه أنها «سيدة قرارها»!
بعيداً عن رد فعل الناس، الذين طيلة الأيام الخمسين الماضية منذ بدء ثورة الكرامة نجحوا في إخراج البلد من إحباطات مميتة، وهم عبروا ليلاً عن بواكير مواقفهم في وجه هذا التحدي السافر، يجدر التوقف عند معطيات أساسية رافقت هذا المنحى ورسمت هذه النتيجة؛ أبرزها أن إسقاط حكومة العهد الأولى هزّ السلطة ولم يضعفها بشكلٍ كافٍ. ذلك أن السلطة في لبنان لم تكن في العقود الأخيرة لبنانية صافية، وفي السنوات القليلة الماضية باتت تمتد من الضاحية الجنوبية إلى طهران مروراً بدمشق، وإضعافها كان يفترض أن يمر بإسقاط «التسوية السياسية» التي عقدها الرئيس الحريري في عام 2016 مع العماد عون، وضمناً مع الأمين العام حسن نصر الله.
تصدعت التسوية ولم تسقط، وبغية استمرارها مارس الحزب سياسة الترغيب والترهيب والتهديد بالمحاسبة، وصولاً إلى التهديدات التي وجهها جميل السيد ومنها أن «سعد الحريري يلعب بالدم…»! ويقول العارفون ببواطن الأمور إن رئيس حكومة تصريف الأعمال لم يكن في أي وقت في وارد الخروج من تلك التسوية، وأنه لتسهيل تمرير هذه التركيبة التزم أمام الثنائي الشيعي بتأييدٍ علني للمرشح سمير الخطيب والمشاركة في الحصة المتروكة له (!) أي تأمين الغطاء الذي اشترطه نصر الله منذ البداية! والغطاء ليس مهماً ما أصابه من تمزق وضعف فهو في حساب الحزب طربوش لاتقاء العواصف والعقوبات الأميركية.
منذ خطابه الأول، كان نصر الله واضحاً في وضعه الخطوط الحمر، لمنع إسقاط كل التركيبة التي نجمت عن التسوية، وكان جلياً أيضاً أن الحزب سيقاتل من أجل الاحتفاظ بنفوذه في السلطة وفي مجمل القرار اللبناني، وهو حاذر أي تراجع؛ لما يمكن أن يترتب عليه من تأثيرات سلبية تتجاوز لبنان، لأنه مع الإرباك في حجم النفوذ الإيراني في سوريا، واهتزاز الهيمنة الإيرانية على العراق، ومؤشرات التراجع في الإقليم، يريد «حزب الله» ضمان سلطة تنفيذية موالية ضامنة لمصالحه والمصالح الإيرانية… المعنى أن لبنان، وبعد الاستثمار الإيراني في الحزب أربعة عقود، يجب أن يوفر التعويض عن أي تراجع في المنطقة.
قال النائب عن «حزب الله» محمد رعد: «نحن في مرحلة صياغة الحكومة»، وإنه «لا حكومة إلا حكومة الوحدة الوطنية»، مضيفاً في هرطقة جديدة: «وفق اتفاق الطائف» (…). وقال جبران باسيل إن المطلوب «حكومة تحترم الميثاقية والتوازنات في نظامنا البرلماني». المعنى أن من يصوغ ويؤلف ويضع توليفة حكومية ليست الجهة الصالحة ولا المرجع. واستمر هذا المنحى دون أدنى رد فعلٍ حقيقي، وكأن الذاكرة غُسلت ولم تقدم هامات كبيرة على مذبح بناء الدولة أمثال رياض الصلح ورشيد كرامي ورفيق الحريري، فكان هذا الانحدار! وهكذا وُضِعت أمام المرشح سمير الخطيب، وهو المستقتل على حيازة لقب «دولة الرئيس»، تركيبة جاهزة تعكس بدقة رغبات رعد ومصالح حزبه وطموح باسيل الرئاسي الذي أمسك بكل خيوط تشكيل الحكومة قبل الاستشارات والتكليف، مستنداً إلى احتجاز «القصر» للاستشارات النيابية الملزمة طيلة 38 يوماً في سابقة غير معهودة؛ إنْ في حقبة ما قبل «دستور الطائف» أو ما بعده، لتكون السابقة الكبرى في تمزيق الدستور وضرب وثيقة الوفاق الوطني التي كلفت اللبنانيين 150 ألف قتيل وحرباً أهلية مدمرة.
ومنذ بدأ طرح أسماء الراغبين في الكرسي رقم «3»، كان الهدف هذه النوعية التي من خلال ترؤسها الحكومة المعلبة تتعمق صيغة المحاصصة الطائفية، ويتم الذهاب إلى الحد الأقصى بعدم سماع صوت الناس وأحقية مطالبها، استناداً إلى رشوة مبتذلة بتوزير بعض المتسلقين على الثورة، مع تجاهل متعمد لفرصة الإنقاذ الوحيدة التي كانت تتمثل في قيام حكومة تستعيد الثقة؛ أقلّه لفرملة الانهيار، وهي بالتأكيد حكومة مستقلين عن الأحزاب الطائفية المسؤولة عن تفشي الفساد والسطو على المال العام واستباحة البلد.
في هذه الأوقات؛ لا يبدو مجدياً مجادلة سلطة استسهلت تجاوز الدستور، وتجاوزت حدث سحب 60 في المائة من اللبنانيين الثقة واستعادة التوكيل، فإن مشروع الحكومة المستنسخة عن حكومات ما قبل «17 تشرين الأول (أكتوبر)»، لو قيّض لها أن تعلن وتذهب إلى البرلمان، يبقى حكومة تفليسة لن تفعل إلا مزيداً من فقدان ثقة الداخل والخارج، ومزيداً من تأزيم حياة اللبنانيين في ظلِّ انهيار متسارع سيفقد معه لبنان ما بقي من استقرار اجتماعي. إنها حالة إنكار متمادية لم يدرك معها الممسك قسراً بالسلطة، معنى أن يشهد لبنان خلال عشرة أشهر فقط حدثين مروعين: جورج زريق يحرق جسده حتى الموت، وناجي الفليطي ينهي حياته شنقاً.
الذين نزلوا إلى الساحات حرّكهم الوجع وانتهاك الكرامات، وهم الهواء النظيف الذي سيكنس الفساد. وعلى محترفي التركيبات الحكومية أن يدركوا أن الناس التي خسرت الكثير كسرت حاجز الخوف، ولم يعد النقاش حول كمْ سيبقون في الساحات، فالهدف بات استعادة سلطة وجمهورية وإعلاء الدستور وقيام دولة العدل والشفافية؛ أي فتح طريق ولادة لبنان جديد تعيش فيه طفلة ناجي الفليطي وأترابها بكرامة.