كان يمكن أن يكون اليوم، هو نفسه في عام 1990، وكان يمكن أن يكون هو نفسه 1995. وكان يمكن أن يكون هو نفسه في عام 2001، وكان يمكن أن يكون هو نفسه في عام 2007، بل كان يمكن أن يكون هو نفسه في عام 2014.
كان يمكن أن يكون الحدث هو نفسه، مع اتفاق الطائف نفسه. مع التوافقات المحلية نفسها، ومع الوصايات الإقليمية نفسها، ومع الرعايات الدولية نفسها. لكن قدر البلاد والعباد مع السياسة والسياسيين، هو أن يهدر اليوم تلو اليوم، والسنة تلو السنة، والجيل تلو الجيل. لكن كل ذلك، لا يغير في الحقيقة حرفاً.
تحالفه مع المقاومة حفظ له استقلاليته وحفظ صورته لنفسه كما يريدها، وحفظ له وعداً صادقاً بخوض معركة وصوله إلى رئاسة الجمهورية
ميشال عون متمرداً، أو منفياً، أو معزولاً، أو منبوذاً، أو كل ما شاء الآخرون من صفات، لم تحل دون إعادة الوصف الذي ناضل لأجله، واستحقه، وهو ميشال عون رئيساً!
وإذا كان الفرح قد استولى على قسم غير قليل من اللبنانيين، فإن الحزن والكدر يكاد ينال من الآخرين. وهو انقسام. كان قائماً، بذات الأرجل والأقوام، في 1990 و1995 و2001 و2008 و2014. ومن تخنه الذاكرة، فليُعد الشريط، فيجد أن اللاعبين هم أنفسهم، والملعب هو نفسه. فما الذي تغير؟
عندما أغار الطيران السوري على القصر الجمهوري خريف عام 1990، أُطلقت يد دمشق في إدارة الملف اللبناني. وافق الشريكان السعودي والأميركي على هذا التفويض. لكن، مع الاحتفاظ بعناصر القوة داخل الدولة وفي الشارع أيضاً. وخلال 15 سنة. طبق اتفاق الطائف بنسخته الأولى. أي بالقراءة السورية – الأميركية – السعودية لتلك المرحلة. وليس من باب التفلسف. بل من باب الواقعية. فإن هذا الاتفاق الثلاثي، قضى بإخراج القوة السياسية المسيحية من معادلة الحكم. ولم يكن الأمر تعسفياً بالمطلق. بل هو كان نتاج مجموعة من الأمور:
ــــ هزيمة المسيحية السياسية في الحرب الأهلية.
ــــ عدم انتهاء علاقات القيادة المسيحية بإسرائيل والغرب.
ــــ تعاظم خصومة هذه القيادة لسوريا.
مرت السنوات. وتغير تمثيل المسيحيين داخل السلطة. وكذلك نفوذهم. ودخلت قوى وجهات على خط مشاركتهم القوة الاقتصادية والمالية. لكن، فجاة، قرر الغرب تعديل المشهد. ربطاً ليس فقط بانتصار المقاومة على إسرائيل في عام 2000، بل بصمود سوريا، وعدم سريان مفاعيل 11 أيلول على سوريا ولبنان وفلسطين، وتقرر خوض معركة تعديل قسري للمعادلة. فقتل رفيق الحريري، وخرجت سوريا من لبنان، وشنت إسرائيل أعنف حروبها. وجرى تعديل لآليات السلطة والحكم في البلاد. لكن الذي حصل عملياً، أن شيئاً لم يتغير عند المسلمين، وأن المسيحيين أُفرج عنهم، لكن قرار إبعادهم عن السلطة ظل ساري المفعول. ثم قامت التسوية من جديد، بمعاونة سوريا والسعودية، لكن بدور أميركي – فرنسي أكبر، وبضيافة المموِّل القطري، ونجم عنها، انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. وكان في ذلك إشارة إلى أن النسخة الثانية من اتفاق الطائف، التي أنهت الأرجحية السورية، لا تزال تتطلب إبعاد القوة المسيحية عن الحكم.
استمر الأمر على حاله في لبنان. علماً أن من بيده الأمر من دول الخارج، لم ينتبه إلى تغييرات عميقة حصلت في الشارع المسيحي. لقد تم، أولاً، إبعاد كل الذين لعبوا دور البارافان في سنوات الحكم السوري. وعادت الكتلة الأكبر من المسيحيين إلى انتماءاتها الحقيقية، وهي القوى والأحزاب والتيارات التي كانت قد أُبعدت عن الحكم بعد انتهاء الحرب الأهلية. وكان في مقدمة هؤلاء، التيار الوطني الحر بقيادة العماد عون. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اقتضت الواقعية السياسية، أو المراجعة المنطقية، من قبل هذه القوى المسيحية، بناء علاقات من نوع مختلف مع المسلمين، فكان انضمام أطراف «الجبهة اللبنانية» إلى التحالف الذي ترعاه أميركا وأوروبا والسعودية، بينما اتخذ العماد عون موقفاً صادماً لهذه القوى، بتحالفه مع حزب الله، ومن خلاله مع القوى التي ظلت إلى جانب سوريا. وهذا التحول، لم يُقرأ جيداً من جانب السعودية والغرب. تعاملوا معه على أنه تعبير عن انتهازية اشتهر بها القادة السياسيون عند المسيحيين. وهو كلام قاله دبلوماسي أميركي في معركة توصيفه لحال لبنان: الكتائب ومتفرعاتها لجأوا إلى السنّة المسلمين الخصوم لسوريا. وعون يريد الحماية من حزب الله.
ربما صدق هذا الدبلوماسي في الشق الأول من تحليله، لأن انحياز قوى الجبهة اللبنانية صوب الشريك المسلم الخاضع لوصاية الغرب والسعودية، إنما استهدف الحصول على مكاسب في السلطة، وهدف إلى عزل العماد عون، لأنه يشكل بالنسبة إلى مسيحيي 14 آذار العدو الذي نما على استعدائهم ومقاتلتهم في سنوات الحرب الأخيرة. لكن ما أخطأ الدبلوماسي الأميركي في فهمه، يتعلق بالنظرة الإجمالية للبنان ومحيطه من قبل العماد عون. ولو كان الأخير يقبل بتحالف يجعله مثل بقية القوى المسيحية، لكان هو الأكثر حظوة عند السعودية وأميركا وجماعتهما في لبنان. لكن تحالفه مع المقاومة، حفظ له استقلاليته، وحفظ صورته لنفسه كما يريدها، بل أكثر من ذلك، حفظ له وعداً صادقاً بخوض معركة وصوله إلى رئاسة الجمهورية.
ومع اندلاع الأزمة السورية، تبين للجميع أن الطائف بنسخته الثانية لم يكن ليشكل حلاً لمعضلة التمثيل السياسي في لبنان. ولم يكن نسف العلاقات مع سوريا، إلا المدخل لاستخدام لبنان ممراً للتآمر على سوريا. يومها قرر مسلمو أميركا والسعودية استبدال العروبة البعثية والناصرية، بالعروبة الوهابية، ظناً أنهم في ذلك يحمون ظهر لبنانهم. ومنذ ذلك التاريخ، سقطت النسخة الثانية من اتفاق الطائف بعدما فقد عناصر الضمانة الخارجية له، قبل أن تندلع أكبر أزمة سياسية داخلية في لبنان. كان الثابت الوحيد فيها، رغبة الإسلام السياسي الذي قام مع «الطائف – 1» وتعزز مع «الطائف – 2» في الإبقاء على تركيبة السلطة وفق المبدأ الذي يجعل التمثيل المسيحي فيها على شاكلة ميشال سليمان… لكن على الأرض، كانت الصورة تتوضح أكثر لمصلحة مركز التمثيل الحقيقي للمسيحيين. حتى انسحاب سمير جعجع، ولو كان تكتيكياً، باتجاه العماد عون، كشف عمق أزمة النظام السياسي في لبنان. وصار البديل، إما ثورة كاملة تنتج نظاماً مختلفاً، وإما تسوية تفتح الباب أمام محاولة جديدة لإدارة الأزمة تحت عنوان «الطائف – 3». وهو ما فرض على الإسلام السياسي النافذ منذ عام 1990، ودون الوقوف على رأي مسيحيي 14 آذار، الذهاب نحو الحل. وربما كان الحريري أكثرهم جرأة، عندما قرر عدم انتظار بقية حلفائه في الإسلامية السياسية، ومضى في مشروع انتخاب ميشال عون.
اليوم، سندخل مرحلة جديدة من حكم لبنان. والنسخة الثالثة من الطائف، لا تفتقر فقط إلى الضمانات الخارجية الأكيدة، بل تفتقر إلى إطار داخلي يعالج المشكلات التي قد تنجم، وستنجم، نتيجة تضارب المصالح والصلاحيات. لكن، هناك فرصة، سيرفضها كثيرون اليوم، ويكابرون، وربما لسنوات، قبل أن يعودوا، وكما كل مرة، للأخذ بها مرغمين.
هذه الفرصة، تقول إنه صار بإمكان غالبية اللاعبين أن يتخذوا من حزب الله حكماً، يفصل بينهم بالعدل والعقل… فهل يقبلون!