كنتُ المستشار السياسي لقائد «القوات اللبنانية» في المرحلة التي مهّدت لـ»اتفاق الطائف»، وواكبت من قرب كل التطورات والأحداث التي أوصلت إلى الاتفاق، وكنت فاعلاً فيها. لذا، أرى من واجبي إيضاح معالم تلك الحقبة التاريخية التي أسست للجمهورية الثانية.
ولكن بداية، يجدر القول إنّ الحرب في لبنان لم تكن أهلية فحسب، بل ثلاث حروب متفاعلة في ما بينها: حرب أهلية، حرب بعض الخارج على لبنان، وحرب الآخرين على أرضه.
شهدت مرحلة ما قبل الطائف تطورات وتحوّلات دولية وإقليمية ولبنانية في غاية الضخامة والخطورة، أدّت نهاية المطاف إلى تسليم سوريا- الأسد لبنان لتنفيذ «اتفاق الطائف» فـ»نفّذته»وفقاً لمصالحها.
1- على الساحة الدولية، تسلّم جورج بوش الأب رئاسة أميركا في 20 كانون الثاني 1989. سقطت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية في السنة نفسها، فتوحّدت ألمانيا عبر اتفاق بوش وغورباتشييف الذي استقال في آب 1991، وتم حّل الإتحاد السوفياتي في كانون الأول 1991، فانتقل العالم من الحرب الباردة إلى عالم أحادي القطب بزعامة مطلقة للولايات المتحدة.
2- على الساحة الإقليمية، إنتهت الحرب العراقية-الإيرانية في آب 1988. وخرج منها صدام حسين مزهواً بـ»انتصاره» وعاد إلى الساحة العربية بطلاً قومياً، رافعاً حدّة تناقضه مع خصمه اللدود حافظ الأسد البعثي، عبر تحالفه مع ياسر عرفات، وأيضاً عبر دعم عسكري وسياسي متنامٍ لعَدُوَّي الأسد في لبنان: ميشال عون وسمير جعجع، مما أثار ريبة إسرائيل والولايات المتحدة، وأقلق العرب الذين دعموه في حربه مع إيران.
ودفع فائض القوة صدّام إلى ارتكاب خطأ مميت باحتلاله الكويت في 2 آب 1990 (بصرف النظر عن صحة نظرية أنّ أبريل غلاسبي، السفيرة الأميركية في العراق، قد أدّت دوراً في دفعه إلى تلك المغامرة). وعليه، في 17 كانون الثاني 1991، شنّت قوات التحالف المكوّنة من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية حرباً على العراق. وشاركت سوريا – الأسد في تلك الحرب، ومن ثم شاركت في مسار مدريد التفاوضي بين العرب وإسرائيل. واستوعب حافظ الأسد أنّه خسر حليفه الإستراتيجي (الاتحاد السوفياتي)، وانعطف نحو أميركا، وكافأه الغرب وبعض العرب وإسرائيل بتسليمه لبنان ليرعى تنفيذ «اتفاق الطائف». وهكذا، أُدخل لبنان في حقبة الإحتلال السوري.
3- في لبنان، كانت نقطة بداية مسار الطائف في تاريخ 22 أيلول 1988، نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، عندما دخلت البلاد محظور خلو سدّة رئاسة الجمهورية. فعلى مساحة تتعدّى بقليل 1000 كيلومتر مربع («المنطقة المحرّرة»)، بات قائدان، جعجع وعون، يتمتعان بكل السلطة والأمرة العسكرية والسياسية، وفي ما بينهما تناقض مزمن منذ تعيين عون في 23 حزيران 1984 قائداً للجيش. ورأى عون في خلوّ موقع الرئاسة وتعيينه رئيساً لحكومة عسكريين، فرصة نادرة لتحقيق طموحه المزمن واللامتناهي إلى الفوز برئاسة الجمهورية، بعدما حاول بشيء من النجاح تثبيت نفسه رئيساً للمسيحيين عبر رفع حدّة تناقضه مع «القوات اللبنانية»، الأمر الذي أسّس لحرب الإلغاء التي خاضها ضدّها، على الرغم من أنّ تعادل القوة العسكرية بين الطرفين كان يفترض أن يحول دون أي قتال بينهما.
الفراغ في سدّة الرئاسة اللبنانية دفع مجلس جامعة الدول العربية إلى تشكيل اللجنة السداسية في 12 كانون الثاني 1989 برئاسة وزير خارجية الكويت آنذاك الشيخ صباح الأحمد وعضوية وزراء خارجية الأردن والجزائر والسودان وتونس والإمارات، لإجراء اللازم من أجل حلّ «الأزمة» المستعصية في لبنان. ويُلاحظ هنا، أنّ اللجنة السداسية خلت من العدوّين اللدودين: سوريا – الأسد (لأنّها طرفٌ في النزاع في لبنان) وعراق- صّدام (لأنّه خرج «منتصراً في حربه مع إيران، مزهوا» بفائض القوة ومتدخلّاً في لبنان من خلال مّدّ عون وجعجع بالسلاح والدعم السياسي لمواجهة سوريا- الأسد).
في 3 شباط 1989 إجتمع عون باللجنة السداسية في تونس وسمع كلاماً إيجابياً بالنسبة إلى ترشحه لرئاسة الجمهورية. وعندما عاد إلى لبنان اتصل عبر وسطاء بسوريا، وفي 14 شباط أطلق هجوماً على «القوات اللبنانية»، دفعة على الحساب وإثباتاً لما هو مستعد أن يفعله. ولكن حافظ الأسد تأخّر في استجابة مطلبه، فبادر مدعوماً من صّدام وعرفات إلى افتتاح «حرب التحرير» بخطوة مفاجئة في 14 آذار 1989. ولم يكن من خيار أمام «القوات» سوى مساندته بالمدفعية لاحقاً في تلك المغامرة غير المحسوبة لمنع سقوط بعض الجبهات، علماً أننا كنا نتوقع أن يدير المدافع مجدداً صوبنا عند انتهاء تلك الحرب، فتحضّرنا لذلك.
في ضوء التطورات الدمويّة في لبنان انعقدت قمة الدار البيضاء الإستثنائية لوقف التدهور في لبنان برئاسة ملك المغرب الراحل الحسن الثاني في فترة 23-26 أيار 1989.
في مرحلة أولى، أنتجت القمة حلاً لم يُرضِ سوريا. فصعّدت وتيرة الحرب مجدداً ووقعت «معركة سوق الغرب» التي كادت أن تسقط في 11 آب 1989 لولا المساندة الفاعلة من مدفعية «القوات». وأدّى التصعيد الحربي إلى اندفاع عربي ودولي نحو ما سوف يكون اتفاق الطائف، حيث اجتمع النواب اللبنانيّون في تلك المدينة السعودية في 30 أيلول، وصوّتوا على وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) في 22 تشرين الأول 1989 بعد 11 اجتماعاً على مدى 23 يوماً.
إفتتح الجلسة الرئيس حسين الحسيني، شاكراً السعودية واللجنة العربية الثلاثية العليا (السعودية، المغرب، الجزائر) وتليت الوثيقة ثم بدأ الاقتراع بالأسماء فوافق عليها 57 نائباً.
في 24 تشرين الأول 1989، أكد العاهل السعودي الملك الراحل فهد بن عبد العزيز باسم اللجنة العربية الثلاثية العليا استعداد اللجنة للإستمرار في مساعدة المجلس النيابي اللبناني والمؤسسات اللبنانية الشرعية «لأن الوضع ليس مجرد مهمّة أديناها وانتهينا منها»، بينما أشاد الرئيس الأميركي جورج بوش بجهود السعودية وملكها في إنجاح اجتماعات الطائف، وأبدت الدول العربية وفي مقدّمها مصر ارتياحها إلى الاتفاق الذي اعتبرته فرنسا «مرحلة مهمّة وجديدة».
تولّت «القوات اللبنانية» وبكركي تغطية الاتفاق مسيحياً، علماً أنه كان في حينها يعكس موازين القوى الدولية والإقليمية، وأن رفضه ومواجهته كانا سيؤديان إلى اجتياح سوريا للمناطق المحرّرة.
رغم ذلك رفض عون «اتفاق الطائف» وشرع في حرب جديدة هي «حرب الإلغاء» في 31 كانون الثاني 1990. توسط صّدام وعرفات لرأب الصدع بين عون و»القوات». وكلفني جعجع بمهمة لقاء صّدام وعرفات مع موفد من عون في بغداد. ولكن لم تؤدّ تلك المبادرة إلى نتيجة. وكانت للقاصد الرسولي، بابلو بوبتي، مبادرة كلفه بها الفاتيكان تقوم على تشكيل حكومة تضم الأطراف كافة. ولكن لم يكتب لها النجاح أيضاً.
يظهر من هذه العجالة التأريخية أن لبنان لم يخرج من أزمته منذ 1975، وهي تتوالى فصولاً. بل انتقلنا من الاحتلال الفلسطيني إلى الإحتلال الإيراني مروراً بالاحتلال الإسرائيلي فالاحتلال السوري.
واليوم، يقوّي اتفاق الترسيم البحري، بتغطية أميركية وغربية، قبضة حزب الله على لبنان.
ولكن لا مكان للاستسلام. وتقديري أن هذا الوضع القاتم في العالم لا يمكنه أن يدوم. والمنطقة حبلى بالأخطار الجيوإستراتيجية، مما يستدعي من المجتمع الدولي عموما والغرب خصوصا أن يعطي الأولوية لمعالجتها.
فليتوحّد اللبنانيون حول خلاص لبنان الشعب والكيان والدولة، عبر إنشاء تجمع مختلط على شاكلة «لقاء قرنة شهوان» مشكّل من قوى سيادية – تغييرية صادقة تتحلق حول خريطة طريق واضحة (تحدثت عنها مراراً) تهدف إلى تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني والطبقة السياسية المارقة القاتلة الفاسدة التي تموج تحت سطوة الاحتلال.