بين ضياع السلطات الرسمية حول ملء الشغور في قيادة الجيش وممارسة الحكم وحل الخلافات حول الصلاحيات، وبين عدم الحسم في كيفية التعامل مع الاوضاع المتوترة في الاقليم وجبهة الجنوب والنصائح الغربية والتهديدات الاسرائيلية للبنان، بقيَ همّ المواطن مركّزاً على كيفية مواصلة عَيشه بكرامة وأمان واستقرار سياسي واقتصادي وأمني دائم، من دون الالتفات الى ما تريده السلطات او تقرره.
هذه الازمات السياسية المتلاحقة منذ نحو عشر سنوات، بما فيها العجز عن حل ازمة الشغور الرئاسي مرتين، والخلافات حول صلاحيات الرؤساء والحكومة وتفسير نصاب جلسات الانتخاب، والعجز عن تعيين موظف رسمي من رتبة مدير عام او اقل قليلاً نزولاً الى تعيين مأموري احراج وحجّاب في الادارات الرسمية، عادت لتفرض بقوة طرح ضرورة تغيير او تعديل النظام السياسي الطائفي – الزبائني – التحاصصي، لأنّ الامور لن تستقيم في البلد مع استمرار الانقسامات السياسية والطائفية وتعدد الولاءات الداخلية والخارجية. ما بات يستدعي حكماً اعادة النظر ببعض مواد الدستور بهدف وحيد هو اعادة الانتظام المستدام الى الحياة العامة والدستورية وحتى لا نقع كل فترة في ازمات مماثلة يدفع الناس ثمنها من مالهم وارزاقهم واستقرارهم.
قد يبدو هذا الكلام خارج سياق الاحداث وتطوراتها اليومية. وسيجد طرح اعادة النظر بالدستور وتوضيح بعض المواد الغامضة او الملتبسة او التي تحتاج تفسيرا واضحا ولمرة اخيرة، والذي تبنّاه العديد من القوى السياسية، رفضاً فورياً قاطعاً كأن الدستور كتاب مقدّس مُنزل من عند الله، بينما هو وضِعَ على قياس مرحلة سياسية معينة داخلية واقليمية ودولية لوقف الحرب الاهلية، وراعى الى حد المبالغة هواجس طائفية كان يمكن معالجتها بطريقة اخرى بالتوافق والتفاهم ضمن أطر حفظ حقوق كل الاطراف والطوائف لا الافتئات على حقوق الآخرين.
ومع ذلك، لا بد من ورشة سياسية – دستورية – حقوقية – قانونية تبحث الموضوع. فلو تم تطبيق الدستور كما كان مقرراً وفق الآلية الزمنية والتنفيذية لما كنّا بحاجة الى البحث في اعادة النظر به، وقد أقرَّ عدد من نواب الطائف المتوفّين، رَحمهم الله والباقين أطال الله بعمرهم، في حوارات إعلامية صريحة «ان ما نعيشه منذ التسعينات ليس هو اتفاق الطائف الذي أقررناه عام 1990 بل لقد تم التنكيل به وتنفيذه بطريقة عشوائية انتقائية، راعت وقتها مصالح الطبقة السياسية التي تسلمت الحكم بعد الحرب». وبالامكان الآن استصراح نواب الطائف الاحياء منهم عمّا تقرر هناك وما تم تنفيذه وكيف تم التنفيذ، وما هو المطلوب لاستعادة جوهر الاتفاق وروحه ووثيقة الوفاق الوطني اللذين تمّ التوافق عليهما؟
لا يمكن استمرار البلاد على النحو الانحداري السائرة به، ولا يمكن الاستسلام لرغبات بعض القوى السياسية التي تهمها فقط مصالحها السياسية والطائفية والشعبوية والمالية، ولا بد من لحظة تصحو فيها الضمائر تعيد الاستقرار المستدام الى البلاد والعباد، ولا يتم ذلك إلّا بتعديل او توضيح بعض مواد الدستور، وتطبيق البنود التي لم تطبّق، وأوّلها وأهمها إلغاء الطائفية السياسية عبر تشكيل الهيئة الوطنية المنصوص عنها في دستور الطائف، وانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ يتولى امور الطوائف. عدا ذلك ستبقى البلاد اسيرة المنازعات والخلافات على تقاسم الحصص، والعودة الى نغمة حقوق الطوائف من دون مراعاة حقوق المواطنين بالعيش الكريم الهانىء المستقر.
لكنّ التجارب أثبتت انّ البلاد تسير على مقولة «كما تكونون يُولّى عليكم»، وهي عبارة قالها مسؤول رسمي عام 2000 عند اقرار قانون الانتخاب الذي سُمّي وقتها «قانون غازي كنعان»، بينما كان قانون الطبقة السياسية اللبنانية مجتمعة. لذلك، فالناس تتحمل مسؤولية في إعادة إنتاج الطبقة السياسية التي أوصلت البلاد الى ما هي عليه من انهيار، لأنها لم تؤمّن ولم تسعَ الى التغيير الحقيقي عبر الطرق الديموقراطية لا العنفية.