Site icon IMLebanon

“الطائف” دستورٌ للعقلاء

 

 

 

هل كُتِبَ على لبنان أن يُستغرَقَ بالتأسيس، وألّا ينتقل أبداً الى مرحلة البناء والإستقرار؟

 

حين قرر ثلاثي الرعاية الخارجية: واشنطن، الرياض ودمشق إنتاج إتفاق الطائف. سعى هذا الثلاثي أولاً الى إعادة ترتيب الوقائع الداخلية عبر تشذيب حيثيتين طائفيتين كانتا مانعاً ميدانياً أمام تكريس العمل بهذا الاتفاق كمدخل للحل السياسي في لبنان، وفي الوقت ذاته تعزيز حيثية طائفية ثالثة كان موقعها المتقدم في السلطة مستتبعاً دستورياً.

 

الحيثية الأولى: الشيعة، الطائفة التي أنهكتها حروب طرفيها المسلحين “حزب الله” وحركة أمل في الضاحية والبقاع وإقليم التفاح، وكان المخرج حينها الفصل بينهما وفق معادلة إنخراط حركة أمل في مسار الطائف وبالتالي نزع ثوب “الميليشيا المسلحة” عنها وفق التوصيف الذي كان متداولاً آنذاك. وفي المقابل تلزيم “حزب الله” حصراً مشروع المقاومة، وذلك إستناداً الى تسوية سورية – إيرانية، تعطي دمشق حق الرعاية السياسية لمشروعي الدولة والمقاومة معاً، وتمنح طهران مساحة عسكرية ولوجستية متقدمة على الحدود الجنوبية في مواجهة العدو الإسرائيلي.

 

كان من المفترض أن يُشكل دخول حركة أمل الى الدولة تعويضاً تاريخياً عن حرمان الشيعة سياسياً وإدارياً وبالتالي إنمائياً، هذا الحرمان الذي لطالما جاهد وتعب لأجل رفعه عن كاهل الطائفة الإمام السيد موسى الصدر، مع أنه تجاوز حدود الطائفة ليتمدد في مشروعه لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة على مساحة الطوائف الأخرى والوطن بأكمله.

 

كما كان من المتوقع أن تندفع هذه الحركة “الوطنية الشريفة المؤمنة”، بحسب ما ورد في ميثاقها، باتجاه العمل على تشريع الإصلاحات الجذرية التي تضمنها الدستور الجديد، خصوصاً وأن معظم الأسس التي قام عليها هذا الدستور كانت نتاج ورقة العمل الوطنية التي أقرها الإمام ومعه فريق من الشخصيات السياسية والفكرية اللبنانية في العام 1977. وبالأخص بعدما تمكنت الحركة من إيصال رئيسها نبيه بري الى سدة رئاسة السلطة التشريعية، بعدما تم اختياره بقرار سوري نافذ.

 

بعد ثلاثة عقود تقريباً من إدارة الرئيس نبيه بري للشأن التشريعي، تبدو الدولة والكيان بكامله أمام معضلة عدم إقرار ولا تطبيق أي من تلك الإصلاحات التي كان من المفترض أن تقوم عليها الدولة الحديثة. بل أن القديم بقي على قِدَمِه وتحول المجلس النيابي الى منصة محاصصة بينه وبين منظومة السلطة التنفيذية بركنها الأساسي حينها الرئيس رفيق الحريري، إضافة الى بعض المسؤولين الذين كانوا يدخلون ويخرجون من هذه المنصة وفق نوعية المُحاصَص عليه.

 

يمكن القول اليوم إن الفرصة الذهبية لتقديم “الشيعية السياسية” نفسها كرائد في بناء الدولة وتحديثها قد ضاعت الى غير رجعة. ولولا المساهمة الوطنية الإستراتيجية التي قدمتها المقاومة وأهلها الحقيقيون في تحرير لبنان وحمايته من العدو الإسرائيلي ومن ثم تحريره من الإرهاب التكفيري وبالتالي تصويب بوصلة خيارات لبنان السيادية، والتي أظهرت وجه الشيعة المضيء والنظيف، لكان بالإمكان القول إن تجربة معظم ممثلي الشيعة في السلطة بمستوياتهم كافة تعني تلقائياً الفساد أو الفشل أو الإثنين معاً.

 

الحيثية الثانية: الموارنة الذين لم تكن حالهم بأفضل من ذلك، خصوصاً وأن زعماءهم لم يتعظوا من الأثمان التي دفعتها طائفتهم بسبب صراعاتهم الدموية وكنتيجة طبيعية لسقوط رهاناتهم الخارجية والداخلية. والأخطر أن هذه الأثمان أفقدتهم معظم مكتسباتهم التاريخية في الدولة وبالأخص منها صلاحيات رئيس الجمهورية، في لحظة إقليمية – دولية فرضت عليهم هذه الخسارة، بمعنى أنها لم تكن نتيجة توافقات مع شركائهم في الوطن بهدف صياغة توازن جديد في إدارة السلطة.

 

والمفارقة أن هؤلاء ما زالوا حتى يومنا هذا عالقين في ماضيهم المتهالك، ويقيمون الإحتفالات السنوية تمجيداً لهزائمهم السياسية والعسكرية.

 

بعد حوالى 27 عاماً من السعي الى الجلوس على كرسي الرئاسة، تمكن العماد ميشال عون من ذلك مدعوماً برافعة من “حزب الله” وإيران وسوريا، ومتجاوزاً معظم العقبات الداخلية بتسوية سُميت رئاسية مع الرئيس سعد الحريري، وبصيغة “ربط نزاع” ماروني مع الدكتور سمير جعجع.

 

غير أن القوة الدافعة خلف ميشال عون الجديد لم تكن العمل على تطبيق عناوين الإصلاح والتغيير التي جعلها شعاراً لمشروعه السياسي بعدما عاد بدون بزته العسكرية، ولم تكن أيضاً الإلتزام بمندرجات التفاهم مع الحزب كأساس لزرع مداميك صلبة في بنيان الدولة. إنما كانت الحركة الخفية على البعض والمرئية من البعض الآخر التي كان وما زال يقوم بها صهره ووريثه الإفتراضي جبران باسيل للجلوس على الكرسي ذاتها.

 

هذا الأمر إستوجب الإنغماس في لعبة المحاصصة بأبشع صورها، حتى إذا ما سقطت هذه اللعبة إستعاد الرئيس عون وصهره وفريقه خطاب الصلاحيات المسلوبة في الدستور من خلال إبتداع تفسيرات تحاكي نموذج الحكم أيام ولاية رئيس الجمهورية أمين الجميل وتعامله مع رئيس الحكومة الأسبق شفيق الوزان، وليس الرئيس الشهيد رشيد كرامي.

 

في الواقع، يبدو أن ما لم يتمكن قائد الجيش الجنرال ميشال عون من تحقيقه أثناء قيامه بما سُمي “تمرداً عسكرياً” في قصر بعبدا للحؤول دون إقرار إتفاق الطائف أو على الأقل منع تنفيذه دون احتساب دور له، يسعى الآن النائب جبران باسيل وحاشيته الى تحقيقه من خلال تكريس أعراف تلغي الدستور ومفاعيله، أو على الأقل تسمح له بإعادة إحياء أو صياغة تسويات جديدة تمكنه من ضمان مستقبله الشخصي على حساب ما تبقى من الدولة والمؤسسات.

 

في المقابل، تقف الحيثية الثالثة “السُنة” على مفترق مصيري يتعلق باحتمال خسارتها “عُرفياً” للتوازن الدستوري والإعتباري الذي حققته لصالح موقعها في رئاسة الحكومة من خلال الدستور الجديد. مع الإشارة الى أن الرئيس رفيق الحريري بالغ أثناء توليه رئاسة العديد من الحكومات المتعاقبة في الإستئثار بالسلطة مستنداً الى هذا التوازن، ومتكئاً على دعم سوري وعلى تحالف مع طرفي منظومته نبيه بري ووليد جنبلاط.

 

لذلك يجد الرئيس سعد الحريري نفسه عالقاً بين أمرين: الأول، محاولته المتأخرة لاستعادة نمط الأداء الذي تميز به والده في موقع رئاسة الحكومة، في ظل فارق كبير جداً في الشخصية والإمكانيات والعلاقات المحلية والإقليمية والدولية. والثاني، رغبته برمي كرة الإنهيار في ملعب رئيس الجمهورية مع علمه المسبق بأن ذلك لن يزيد من شعبيته في طائفته، كما أنه سيُفقده الملجأ السياسي الوحيد المتبقي له.

 

ربما لا يريد سعد الحريري أن يقتنع أنه يدفع ثمن تورطه في ما سُمي “التسوية الرئاسية”، والتي كانت فخاً تم استدراجه إليه لإضفاء صبغة وطنية جامعة على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ومن ثم ابتزازه بعدم قدرته على الخروج من السلطة في وقت بدأت علاقاته مع مرجعياته الإقليمية تتداعى بشكل سريع، هذا الخروج الذي أراده موقتاً ووفرته له إنتفاضة “17 تشرين”.

 

على أي حال، كل المؤشرات تدل على أن سعد الحريري قد فهم الدستور بالمشافهة، ومن خلال ما يسمعه من بعض المستشارين وأغلبهم وزراء سابقون عن أسلوب والده المرحوم في إدارة الحكم، لذلك هو بحاجة الى فترة إستراحة يعيد خلالها قراءة هذا الدستور كي يتمكن من فهم روحيته ومضامينه فهماً عقلانياً ومسؤولاً.

 

ولكن بالمبدأ، هل تصح صفة “العقلاء” على مسؤولين إمتهنوا الفساد واتسموا بالعناد وأفقروا العباد ودمّروا البلاد؟

 

وهل يمكن إئتمانهم من جديد على تطبيق دستور بقي معلقاً منذ حوالى ثلاثين عاماً ؟!

 

(*) قيادي سابق في حركة أمل