في السنة الأخيرة من عهده، تشبه مرحلة وجود رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في قصر بعبدا، مرحلة وجوده ما قبل اتفاق الطائف في نهاية الثمانينيات وما بعده. الأداء نفسه، والتصرف الحادّ نفسه، واختزال كل ما يمكن أن يسيّر البلد في القصر الجمهوري، ووضع سيناريوهات مشابهة بعد انتهاء السنة الأخيرة من الولاية الحالية. وبعد أكثر من ثلاثين عاماً، يضاف إلى المشهد القديم، مشهد جديد، يتعلق برغبة عون في توريث رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل رئاسة الجمهورية بعدما أورثه حزباً سياسياً بكل أرباحه وخسائره. الأمر الذي راكم منذ أن تسلّم عون رئاسة الجمهورية قبل خمس سنوات، مشكلات تتعلق بأدائه، مضافة إلى أداء باسيل الاستفزازي الحادّ، فدخلت الرئاسة في أزمات متلاحقة، ودخل معها لبنان في أسوأ أزمة مصيرية. صحيح أن رئيس الجمهورية لا يتحمّل وحده أسباب الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي إلا أنه يتحمّل مسؤولية إيجاد حلول بعيدة عن الشخصانية التي طبعت أداء العهد وتياره منذ التسوية الرئاسية وحتى اليوم، وأداء عدد لافت من نوابه ووزرائه الذي تشوبه كميات فادحة من الأخطاء.
لكنّ هذا المشهد مختلف تماماً عن المشهد الذي جرى في اليومين الأخيرين.
فما ذهبت إليه السجالات بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثانية ودخل على الخط معها مباشرة الرئيس المكلف سعد الحريري، واللقاء الذي عقده رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مع الرئيس نبيه بري، واتخاذها منحى طائفياً بحتاً، كلّ ذلك أعاد إلى الذاكرة مشهد تجمّع حلفاء سوريا بعد الطائف، وتنفيذهم لاتفاق إنهاء الحرب بما يناسبهم تحت إدارتها، وتحالف هذا الجزء من حلفاء دمشق في وجه الرئاسة الأولى، الذي بدأ أوّل ملامح الاشتباك حوله مع الرئيس إميل لحود.
لعلّها المرة الوحيدة في الأشهر الأخيرة التي يحتمل فيها خطاب رئيس الجمهورية صوابية في معركة تأليف الحكومة. وهذا لا علاقة له بنواياه ونوايا باسيل في الوراثة أو الأخطاء المتعلقة بمفاوضات تشكيل الحكومة وانتقالها من قصر بعبدا إلى حيث يتنقّل باسيل في اللقلوق أو البياضة، أو بالأداء الداخلي العام في كل الملفات الكهربائية والنفطية.
أعراف ما بعد الطائف هي التي تسود، وستُشهَر في وجه أي رئيس للجمهورية مهما كان اسمه
هي المرة الأولى التي ينسحب فيها باسيل (ولو بقي خلف الستارة) من حرب السجالات، لتصبح المواجهة المكشوفة بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثانية، وهي مواجهة مكلفة طائفياً ومذهبياً، خصوصاً أن الأسابيع الأخيرة شهدت أيضاً استنفاراً طائفياً بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثالثة، ومن ينوب عنها حالياً أي الرئيس المكلف ورؤساء الحكومات السابقين ودار الفتوى. ما جرى كان أشبه بالتوافق السُّني – الشيعي في وجه الرئاسة المارونية، وهو ما لا تقدر بكركي، والقوات اللبنانية في مكان ما، أن تتخطياه، رغم مواقف الأخيرة من أداء عون وباسيل في تشكيل الحكومة.
هي من المرات النادرة، التي يستعيد فيها عون اتفاق الطائف الذي هو باطناً ضده، فيما اعتاد أن يستخدمه حين يناسبه في التوقيت وفي المواد، ولا يتعامل معه كوحدة متكاملة. يلوّح بأن القوى السياسية تعدّت عليه طوال سنوات من الممارسة الخاطئة له، قافزة فوقه لمصلحة أعراف لا تزال تعمل بها حتى اليوم، فيحارب تلك القوى لمنعها من تثبيت أعرافها.
وعون يعرف أنه أخطأ حين كان لا يزال في الرابية رئيساً لتكتل التغيير والإصلاح، برفضه حصة وزارية للرئيس ميشال سليمان، وهو أمر حصل مع الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود. ورفضه آنذاك كان نكداً سياسياً وشخصياً بحتاً، ولا يستطيع اليوم الدفاع عنه وتبريره. في حين أن حصته كرئيس للجمهورية مستقاة من موقعه كشريك كامل في التوقيع وإصدار المراسيم، وفي الموافقة على تأليف الحكومة. علماً أن الرئيس سعد الحريري، حين قرّر الهروب من مسؤولياته بعد أحداث 17 تشرين، لم يتشاور معه في تقديم استقالته.
لا تتعلّق القضية هنا بحقوق المسيحيين، كما أخطأ في تطبيقها عون وباسيل في هذه الولاية، واستبدلاها بتحصيل حقوق مناصريهما والمحسوبين عليهما في التعيينات والمحاصصات، إنما تتعلق بصلاحيات الرئاسة الأولى، واستنفار عصبية الرئاسة الثانية والرئاسة الثالثة في وجهها، للمرة الأولى بهذه الحدّة. وهذا الأمر يذكّر بالكلام الذي قيل عن تأمين الميثاقية في مجلس النواب، ولو لم يعطِ التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية الثقة للحكومة. وهنا يستعيد أحد السياسيين ما فعله الرئيس كميل شمعون، عندما مثلت حكومة الرئيس أمين الحافظ في مجلس النواب لنيل الثقة في عهد الرئيس سليمان فرنجية. حين وصل شمعون وأدرك أن النواب السُّنة لن يحضروا لمنح الثقة لحكومة الحافظ، رفض دخول المجلس وقال حينها ما معناه إن مثل هذه القضايا لا تُحل في لبنان إلا بالتوافق، فسقطت حكومة الحافظ بالتوافق مع فرنجية… حدث ذلك في عزّ صلاحيات الرئاسة الأولى ما قبل الطائف. أما اليوم، فأعراف ما بعد الطائف هي التي تسود، وما دامت شُهرت في وجه أقرب حليف لحزب الله، فستُشهَر مجدداً في وجه أي رئيس للجمهورية مهما كان اسمه.