Site icon IMLebanon

إقرأوا “الطائف” والدستور جيداً !

 

يبدو واضحاً انّ فريقاً من هذه الطبقة السياسية وبعض من يدور في فلكها لم يقرأوا «اتفاق الطائف» ولا الدستور الذي انبثق منه جيداً، او انّهم ما زالوا يعيشون في مرحلة ما قبل هذا «الطائف» الذي طاف بلبنان ويطوف منذ نحو 34 عاماً، فهو أُقرّ في خريف العام 1989 في مؤتمر النواب اللبنانيين الذي انعقد في مدينة الطائف، ولاحقاً سُيّلت نصوصه مواد دستورية عام 1990 وبدأ تنفيذه على الفور، ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لا يزال كثيرون يطالبون بـ»استكمال» تطبيقه نصاً وروحاً، وبعضهم يدعو إلى إعادة النظر في ما نُفّذ منه بطريقة شوهاء…

مناسبة هذا الكلام هو ما يُطرح حالياً من هنا وهناك عن «خيارات» يمكن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ان يلجأ اليها على المستوى الحكومي في حال انتهت ولايته في 31 تشرين الاول المقبل، ولم تُؤلف حكومة دستورية أصيلة تتولّى، حسب الدستور، صلاحيات رئاسة الجمهورية في حال تعذّر انتخاب رئيس جديد.

وفيما لم يصدر عن عون علناً سوى انّه سيغادر القصر الجمهوري ليل 31 تشرين الاول حيث تنتهي ولايته، ولكنه لا يحبذ تولّي حكومة تصريف الاعمال صلاحيات رئاسة الجمهورية، إن لم تؤلف الآن حكومة اصيلة لهذه الغاية، فإنّ بعض المحيطين به وآخرين ، يردّدون انّ «الرئيس لن يسلّم الفراغ الرئاسي إلى فراغ حكومي»، ويهدّدون بعدم التعامل مع حكومة التصريف وسيتعاملون معها على أساس انّها «مغتصبة سلطة». على حدّ ما ذهب اليه رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل.

لكن بعض هؤلاء وآخرين ممن يطرحون تعديل «اتفاق الطائف» اي الدستور، لإعادة بعض صلاحيات السلطة التنفيذية، وربما صلاحيات آخرى، إلى رئيس الجمهورية، يسرّبون عن انّ عون قد يبادر الى تأليف حكومة عسكرية او مدنية لكي تتولّى صلاحيات الرئاسة بعده. وهذا الكلام إن دلّ إلى شيء، فإنما يدلّ إلى جهلهم الفاضح بالدستور المنبثق من «اتفاق الطائف»، وكأنّهم ما زالوا يعيشون في مرحلة ما قبل «الطائف»، غير عابئين بأنّ هذا الدستور نزع السلطة التنفيذية نهائياً من يد رئيس الجمهورية وأناطها بمجلس الوزراء مجتمعاً. وطبعاً هذا المجلس تتمثل فيه كل الطوائف، وكذلك كل القوى السياسية (إلّا من اراد منها عدم المشاركة). وتحقيقاً لهذا التمثيل فإنّ كل الحكومات التي تُشكّل بعد «الطائف» هي «حكومات وفاق وطني»، مع العلم انّ هذا الامر قد اختُرق في بعض المراحل وتمّ تأليف بعض الحكومات «من لون واحد»، وذلك بسبب امتناع أفرقاء آخرين عن المشاركة فيها.

على انّه بعد «الطائف» لم تعد المبادرة او صلاحية تأليف الحكومة بيد رئيس الجمهورية حصراً، بل عليه إجراء استشارات نيابية ملزمة له بنتائجها، وتنتهي بتسمية الشخصية التي تحظى بأكثرية الاصوات النيابية لتأليف الحكومة، ثم ينطلق الرئيس المكلّف إلى اجراء استشارات نيابية وسياسية غير ملزمة له بنتائجها، ويؤلّف حكومة ويقدّمها لرئيس الجمهورية، حتى إذا توافقا عليها يُصدران مراسيم تأليفها بعد اطلاع رئيس مجلس النواب عليها.

اما ان ينفرد رئيس الجمهورية بتأليف حكومة لتولّي صلاحيات الرئاسة الاولى في حال عدم انتخاب خلف له قبيل انتهاء ولايته، فهذا كان قبل «الطائف»، مثلما فعل الرئيس أمين الجميل عام 1988، عندما شكّل حكومة عسكرية برئاسة عون الذي كان يومها قائداً للجيش، ومع ذلك لم تتمكن هذه الحكومة من حكم البلاد بسبب استقالة الضباط المسلمين الثلاثة منها فور تشكيلها، تحت ضغط الرفض السياسي الإسلامي لهذه الحكومة، خصوصاً انّ السياسيين المسلمين ساءهم يومها كيف انّ الجميل لم يشكّل حكومة مدنية، برئاسة رئيس سنّي، ووجدوا في ذلك يومها عدم ثقة وائتمان لهم على ادارة البلاد بواسطة هذه الحكومة الانتقالية إلى حين انتخاب رئيس جمهورية جديد.

ولذلك، فإنّ الدستور لا يجيز اطلاقاً لرئيس الجمهورية التفرّد بتأليف حكومة اياً كان نوعها او حجمها والمواصفات. وانّ الخيار المتاح له قبل انتهاء ولايته إذا لم ينتخب خلفاً له، هو الاتفاق مع الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي على تأليف حكومة جديدة. وإذا تعذّر عليهما ذلك فإنّ الدستور لا يمنع حكومة تصريف الاعمال الحالية من ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية في الإطار الضيّق لتصريف الاعمال، إلى حين اتفاق الكتل والقوى السياسية والنيابية على انتخاب رئيس جديد.

وأما «المثالثة» التي يثيرها البعض من حين الى آخر، مشيّعاً المخاوف من وصول البلاد إلى ما يسمّيه «حكم المثالثة» أي حكم الطوائف الثلاث الكبرى المارونية والشيعية والسنّية، فهي اختراع البعض لأهداف سياسية فقط، لأنّهم يعرفون انّ حكماً من هذا النوع لا يمكن ان يقوم في بلد التنوع الطائفي والسياسي، وبلد «الديموقراطية التوافقية». ويبدو انّ اصحاب هذا الرأي لم يقرأوا «الطائف» جيداً. فمثل هذه المثالثة مخالفة للدستور ولاتفاق الطائف في الأساس. فهذا الاتفاق ومن ثم الدستور قالا بـ»المناصفة بين المسلمين والمسيحيين» ثم بـ»المثالثة ضمن المناصفة» بين الطوائف الثلاث الكبرى في توزيع المواقع في الدولة من الوزراء والحقائب الوزارية في الحكومة إلى المجلس النيابي وصولاً إلى وظائف الفئة الاولى، فيما ألغى الاتفاق طائفية الوظيفة العامة ما دون الفئة الاولى، التي حُسم في شأنها ان يتمّ التوظيف وفق مباريات يجريها مجلس الخدمة المدنية، فمن يفوز بالمباراة من أي طائفة كان وبعيداً من العدد او المناصفة، يُعيّن في الوظيفة المطلوبة. الّا انّ هذا الامر غالباً لم يُطبّق بهذه الحَرفية، وانما يأتي مشوّهاً ومخالفاً للنص، ويجعلها مناصفة كوظائف الفئة الاولى، بذريعة التزام عبارة «مقتضيات الوفاق الوطني» التي وردت في بعض بنود الطائف إزاء مسائل أخرى..

اما «المثالثة ضمن المناصفة» فقُصد بها توزيع الوظائف بالتساوي بين الطوائف الثلاث الكبرى، بحيث تكون حصة الطائفة المارونية بمقدار حصة الطائفة الشيعية وبمقدار حصة الطائفة السنّية، بعيدا من أي أبعاد سياسية. والمراد فيها هو ان تكون لهذه الطوائف الثلاث الكبرى أحجامها وحصصها المتساوية في مواقع الدولة، من دون ان يعني ذلك حرمان بقية الطوائف حقها من الوظائف، كل وفق حجمها. وذلك على ان تكون هذه المناصفة والمثالثة ضمنها مؤقتة إلى حين إلغاء الطائفية السياسية المنصوص عنه في المادة 95 من الدستور، والذي إذا تحقق من شأنه ان ينقل البلاد إلى دولة الأحزاب ولا يعود للطوائف أي دور في اختيار هذه الشخصية او تلك لرئاسة الجمهورية او رئاسة مجلس النواب او رئاسة الحكومة، بحيث انّ الحزب او الأحزاب التي تفوز في الانتخابات النيابية على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة او مجموعة دوائر كبرى على أساس النظام الانتخابي النسبي، هي التي تتولّى السلطة على قاعدة «الأكثرية تحكم والأقلية تعارض» في مناخ لا مخاوف طائفية فيه من هنا او هناك، كما هي الحال اليوم، حيث المخاوف المتبادلة بين الطوائف كما بين القوى السياسية. فهذه المخاوف من أبرز العلل بل العقبات التي تمنع قيام الدولة القوية العادلة التي تحكمها المؤسسات لا الاشخاص ولا القوى الاكثر نفوذاً في البلاد على حساب الآخرين.

ولذلك، يرى الراسخون في «علم الطائف»، إذا جاز التعبير، انّ من يحذّر ويهوّل بـ»حكم المثالثة» عليه ان يقرأ «اتفاق الطائف» جيداً، ليكتشف أن ليس فيه اي مثالثة سياسية، وانما مثالثة إدارية مؤقتة، تقتصر على توزيع المواقع والمناصب الكبرى في الدولة ليس إلّا.

على انّ أقصر الطرق إلى الخروج من الطائفية يكون بإقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي. فهذا القانون يفترض ان يكون الخطوة الاولى بعد اقرار الغاء الطائفية حسب منطوق المادة 95 من الدستور، وإقراره شرط لازم لانتخاب مجلس النواب على أساس وطني لا طائفي، وانّ قيام هذا المجلس هو شرط لإنشاء مجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية، حسبما تنص المادة 22 من الدستور.

فليقرأ المعنيون «اتفاق الطائف» والدستور الذي انبثق منه جيداً، لأنّ البلاد لا تتحمّل مغامرات ولا اشتباكات إضافية ولا جدلاً دستوريأً من النوع العقيم..