من حين الى آخر يخرج من السياسيين على مستويات مختلفة من يتحدث عن «المثالثة»، موحياً بأنّ بعض القوى السياسية يدفع في اتجاه الوصول اليها، فيما لا يدرك هؤلاء ان لا شيء يمكن ان يوصِل الى «مثالثة»، بمعنى أن تُمسك ثلاثة قوى او طوائف بسلطات البلد ومقدراته، فيما التجارب أثبتت وتثبت كل يوم أنّ اي قوة او مجموعة قوى او طوائف تستطيع حكم لبنان بمفردها، وانّ الجميع محكومون بالعيش معاً. فعَن أيّ «مثالثة» يتحدثون؟
نعم، يقول «اتفاق الطائف» بـ»المثالثة» ولكنها «المثالثة ضمن المناصفة» على مستوى توزيع المواقع الرسمية والادارية في الدولة في كل المستويات والقطاعات، وهذه المثالثة أُريد لها ان تكون بين الطوائف الكبرى الثلاث: المارونية والشيعية والسنية، بحيث تضمن هذه المثالثة حصصاً متساوية لأبناء هذه الطوائف في كل القطاعات والمواقع، ولا تتعدى النطاق الاداري الى السياسي، بمعنى ان تحكم الطوائف الثلاث الكبرى البلد وتتحكّم به بمعزل عن الطوائف الاخرى، فيما «اتفاق الطائف» يقضي دوماً بتشكيل حكومات وفاق وطني، او حكومات تتمثّل فيها كل المكونات السياسية والطائفية بحيث لا يستثنى من التمثيل فيها إلّا من يريد ان يستثني نفسه بقرار ذاتي يتخذه.
ولوحِظ قبل أيام اندفاع البعض الى التحذير من هذه المثالثة بالمعنى السياسي السلطوي، وذلك لمناسبة طرح البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي موضوع «حياد» لبنان عن المحاور والنزاعات الاقليمية والدولية سبيلاً لخروجه من الانهيار المالي والاقتصادي الذي وقع فيه.
هذا التحذير، يقول سياسيون، هو لزوم ما لا يلزم، لأنّ أحداً لا يمكنه الدخول في مثالثة سياسية – سلطوية تقود البلد، ولو انّ «اتفاق الطائف» طُبّق أو يُطبّق نصاً وروحاً لَما كان هناك من داع لإثارة هواجس أو مخاوف لا مبرر لها أساساً، وكذلك ما كان هناك من داع الى طرح الحياد، ولكان الحياد تحقق تلقائياً، خصوصاً انّ اولى مستلزماته ان تكون في البلاد دولة قوية تمارس سيادتها وتتخذ قراراتها السيادية والمصيرية وحتى العادية بعيداً من اي مؤثرات او تدخلات خارجية، فحتى يكون لبنان محايداً عليه ان يمتلك كل اسباب القوة السياسية الاقتصادية والمالية والعسكرية من دون حاجة الى الاعتماد على هذه الدولة او تلك، او على هذا المحور او ذاك، في حين انّ واقعه اليوم يبدو نهباً لكل انواع التدخلات الخارجية من مستوى سفراء الدول العاملين في لبنان الى مستوى حكومات هذه الدول، وصولاً الى بعض المنظمات الاممية والدولية التي تَأتمر بهيمنة العواصم الكبرى على قراراتها، سواء في شأن لبنان او غيره من الدول الضعيفة، حتى لا نقول المغلوب على امرها، في عالم لم يعرف العدالة يوماً منذ تأسيس الامم المتحدة وإحداث حق «فيتو» للدول العظمى الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي.
والمثالثة في «اتفاق الطائف»، يقول هؤلاء السياسيون وبعضهم شارك في مؤتمر الطائف الذي أنجبه عام 1989، هي إعطاء الموارنة والشيعة والسنة حقوقهم في المواقع الرسمية والادارية نسبة الى أحجامهم العددية وليس نسبة الى النفوذ السياسي، وهذه المثالثة الادارية لم تحرم بقية الطوائف حقوقها من هذه المواقع، إذ تأخذ كل طائفة منها حقها بحسب حجمها، ولكن الخلل المسكوت عنه والذي يتسبّب من حين الى آخر بخضّات وإشكالات وأحياناً اشتباكات سياسية تأخذ بُعداً مذهبياً او طائفياً، هو إصرار البعض على حكرية وحصرية بعض وظائف الفئة الاولى بطوائف معينة، فيما «الطائف» الذي جعل هذه الوظائف مناصفة بين المسلمين والمسيحيين وضمنها المثالثة بين الطوائف الثلاث الكبرى، شَدّد على المداورة في توزيع هذه الطوائف، بحيث لا تكون اي وظيفة من الفئة الاولى حصة دائمة لطائفة او لطوائف بعينها، ولكن ارتكاب الخطأ مستمر في هذا المضمار بحيث انّ هناك عدداً كبيراً من المديريات العامة لبعض الوزارات وغيرها صارت وكأنها «حقاً مكتسباً» لهذه الطائفة أو تلك ولا تحصل فيها المداورة في اي تعيينات إدارية يقررها مجلس الوزراء، وهذا الخطأ ربما هو ما يدفع البعض الى الحديث عن المثالثة بالمعنى السياسي السلطوي بما يظهر الموارنة والشيعة والسنّة كأنهم مهيمنون على المواقع الاساسية في الدولة وينكرون للآخرين حقوقهم في هذا المجال، فيما «اتفاق الطائف» بريء من هذا الامر جملة وتفصيلاً، ولكن ما يحصل هو التنفيذ المشوّه او غير الأمين لهذا «الطائف» الذي ينادي بإقامة دولة المؤسسات والقضاء المستقل ودولة العدالة بين جميع اللبنانيين الى أي طوائف انتموا، بحيث لا تكون لأيّ مواطن أفضلية على الآخر الّا من حيث الكفاية والاختصاص والجدارة من تَحمّل المسؤولية في الموقع الذي يسند إليه، علماً أنّ المادة 95 من الدستور، التي نادت بالتوزيع العادل وبالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المناصب والمواقع الادارية من الفئة الاولى، قالت انّ هذا التوزيع يُعمل به موقتاً الى حين إلغاء الطائفية السياسية المنصوص عنه في المادة نفسها من حيث تأليف الهيئة التي تتولى وضع برنامج هذا الالغاء، ولكن هذه الهيئة لم تشكّل بعد وقد مضى على إقرار «اتفاق الطائف» اكثر من 30 عاماً (تشرين الاول 1989).
وثمة خلل آخر في تنفيذ «اتفاق الطائف» مسكوت عنه أيضاً، وهو عدم التزام إلغاء الطائفية في الوظائف العامة ما دون الفئة الاولى، بحيث لا تُراعى في هذه التوظيفات معايير الكفاية والاختصاص ولا يؤخَذ بنتائج المباريات التي تجري لاختيار الموظفين فيذهب الصالح بعزاء الطالح وتتكرر معادلة الـ»6 و6 مكرر» التي كانت سائدة قبل «الطائف» بذريعة «مقتضيات الوفاق الوطني» التي تطلق عند إعلان اسماء من يختارون من المتبارين حتى ولو كان بينهم من لم ينالوا معدل العلامات المطلوب لفوزهم بالوظيفة. فيما الطائف يقضي بأن يعيّن من يفوزون منهم حتى ولو كان من طائفة واحدة او من طوائف عدة كبيرةً كانت او صغيرة او من الاقليات.
كل ذلك، يقول السياسيون أنفسهم، يؤكد هروباً من هدف إلغاء الطائفية السياسية وإمعان بعض القوى السياسية في الممارسة الطائفية وتقاسم الوظائف العامة وتعيين محازبيهم او أنصارهم لغايات انتخابية وغايات الامساك الدائم بالادارات العامة ومقدراتها وجعلها إقطاعات تخدمهم قبل خدمة جميع اللبنانيين، الذين لا ينبغي ان تُغتصب حقوقهم لمصلحة جماعات او قوى سياسية وحزبية، الأمر الذي يرسّخ الطائفية اكثر فأكثر ويمنع أي امل في إلغائها يوماً بحسب ما يقضي «اتفاق الطائف» والدستور الذي انبثق منه.