استشعر «حزب الله» مدى عمق وخطورة حادث الكحالة وتأثيره على الرأي العام اللبناني. فعمد إلى طرح معادلة جديدة في التركيبة اللبنانية وهي: الطائف مقابل المقاومة. جاء ذلك على لسان السيد محمد رعد رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» الذي قال: «إن من لا يريد المقاومة فهذا يعني أنه لا يريد اتفاق الطائف وبالتالي عليكم أن تنتبهوا إلى أين تأخذون وتجرّون البلاد» .
في الوقت عينه (13-8-2023) كان الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي يؤكد ويشدّد في عظة له بأنّه «لا يمكن العيش على أرض واحدة فيها أكثر من دولة، وأكثر من جيش شرعي وأكثر من سلطة وأكثر من سياسة. بهذا المنطوق يجب تطبيق اتفاق الطائف بكامل نصّه وروحه، وقرارات الشرعية الدولية بشأن سيادة دولة لبنان على كامل أراضيها». أمام هذين الموقفين المتناقضين صار من الضروري العودة إلى اتفاق الطائف في أسسه ومضامينه الجوهرية والمعادلات التي ارساها في التركيبة اللبنانية والضمانات التي وضعها بمثابة معايير للحياة العامة اللبنانية كونه اتفاقاً داخلياً إقليمياً في الوقت عينه ويحظى بمباركة عربية ودولية.
أولاً: مقوّمات الطائف
1- لقد سبق اتفاق الطائف (تشرين الأول 1989) أحداث وتحوّلات ومحاولات لمعالجة المسألة اللبنانية. فقبل الطائف في السعودية كانت هناك محاولتان: مؤتمر جنيف 1983، ومؤتمر لوزان 1984 وقد شارك فيهما معظم الزعماء اللبنانيين: كميل شمعون، سليمان فرنجية، أمين الجميّل، بيار الجميّل، نبيه بري، صائب سلام، رشيد كرامي، وليد حنبلاط، ورفيق الحريري.
2- يذهب بعض المحلّلين إلى القول إنّ ما كان مستحيلاً في جنيف ولوزان صار ممكناً بل مطلوباً في الطائف، لانتهاء الوظيفة الاقليمية والدولية لحرب لبنان، ولأن السلام في لبنان صار مدخلاً إلى التسوية الاقليميّة.
وقد شهت فترة نهاية الثمانينات نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وبروز القطبية الأميركية الواحدة. كما شهدت اقليمياً نجاح صدام حسين في تحدي السلطات الايرانية بعد حرب الثماني سنوات التي شهدت سقوط أكثر من مليون قتيل على الجبهة الايرانية – العراقية. ومن ثم التوجّه لاخراج سوريا واسرائيل من لبنان كما خلق معادلة اقليمية جديدة تبعها صدام بارسال صواريخ فروغ إلى لبنان بمدى 120 كلم بحيث يطاول اسرائيل وسوريا سوية بقذائف رؤوس حربية كيميائية. الأمر الذي فرض شبه حالة استنفار أميركي– اسرائيلي – سوري لمنع سقوط معادلة كيسنجر والخطوط الحمر ومن ذلك السعي لتسوية جديّة للقضية اللبنانية ترتكز على مفهوم السيادة اللبنانية وهو ما عكسه بيان اللجنة العربية الثلاثية المؤلفة من الملك الحسن الثاني والملك فهد والرئيس بن جديد بحيث ورد تعبير سيادة لبنان واستقلاله ثماني مرات في اربع صفحات، مما يعكس تحوّلاً مهماً لصالح القضية اللبنانية.
ثانياً: معادلات الطائف
توضع وثيقة الطائف تحت عنوان «وثيقة الوفاق الوطني اللبناني»:
1- فهي تقوم على فلسفة التسوية بمعنى اعتراف واقرار وقبول افرقاء الصراع بتنازلات متبادلة.
2- وهي وثيقة ذات صفة ميثاقية إذ تقوم على التعاقد والتعاهد بين جهتين فهي عقد وطني ملزم للبنانيين معنوياً وسياسياً.
3- وهي نصّ تأسيسي سوبر- دستوري إذ هي عقد حياة بين اللبنانيين برضى ومباركة دولية.
4- وهي تأخذ معناها وأهميتها من مدى تنفيذها من اللبنانيين جميعاً .
5- وفي عودة إلى النقاط الأساسية التي قبل بها الطرفان: إن لبنان عربي الانتماء، بالمقابل إنه وطن نهائي سيد حر ومستقل، وحلّ جميع الميليشيات اللبنانية المسيحية وتجريدها من السلاح وبالمقابل حلّ جميع الميليشيات الاسلامية اللبنانية وغير اللبنانية أي الفلسطينية والايرانية وتجريدها من السلاح (ومنها «حزب الله»).
ثالثاً: ضمانات الطائف
تلتزم وثيقة الوفاق الوطني بخمس ضمانات:
1- المجلس الدستوري كضمانة قانونية.
2- مجلس الشيوخ كضمانة تمثيلية للطوائف.
3- الاعلان العالمي لحقوق الانسان كضمانة قانونية دولية.
4- حق النقض: كضمانة لحفظ حقوق الاقليات في السلطة.
5- حكومة الوفاق الوطني: كضمانة وطنية ودستورية وسياسية لتأكيد الحياة المشتركة والمشاركة في السلطة.
رابعاً: الطائف اتفاق داخلي– إقليمي بمباركة دولية
1- وافق النواب في الطائف على نصّ الوثيقة بأكثرية 58 نائباً من أصل 62.
2- وصادق مجلس النواب في لبنان عليها بأكثرية 57 صوتاً من أصل 58.
3- أصدر مجلس الأمن 6 قرارات لدعم الاتفاق حول لبنان.
4- كما صدر قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بأكثرية 143 دولة لصالح الاتفاق.
5- كما أصدرت المجموعة الأوروبية قراراً بتأييد الاتفاق.
6- ومن الواضح أن لجنة الرؤساء الثلاثة العرب تمّ تأليفها عبر الجامعة العربية وحازت على تأييد الجامعة في مختلف مراحل العمل لصياغة الاتفاق وجعله قابلاً للتنفيذ في وجه العقبات التي تعترضه من بعض القوى المتضررة من الاصرار على تحقيق سيادة لبنان واستقلاله وخلوّه من السلاح غير الشرعي.
تأتي في طليعة هذا القوى جهتان هما: اسرائيل وسوريا لقد كان يصعب عليهما الخروج من لبنان حتى حين طلب منهما فيليب حبيب مبعوث الرئيس الأميركي إلى لبنان الانسحاب قبل الطائف. ومع اتفاق الطائف والدعم الدولي له ولتطبيقه ظلت الدولتان تجدان الاعذار للبقاء فيه. حتى صدور القرار رقم 1559 تاريخ 2/9/2004 .
يتبيّن مما تقدّم أنّ المقابلة التي يقيمها النائب محمد رعد للمراهنة على اتفاق الطائف في مقابل المراهنة على «حزب الله» هي مقابلة غير قائمة لا نظرياً ولا فعلياً نظراً للإختلافات الواسعة والعميقة بين الجهتين. فالحزب، كل حزب، هو خلاصة نظام فكري يقوم على الايمان بحقيقة اساسية، في حين أنّ اتفاق الطائف هو خلاصة آراء واجتهادات قوى دولية تعمل في خدمة القضية اللبنانية على أساس أنّ لبنان الدولة والكيان هو حقيقة جغرافية وتاريخية وضرورة اقليمية دولية في آن وبالتالي هو بلد له الحق الكامل بالاستقلال والسيادة وحرية القرار على أرضه. وبالتالي لا مجال للمقايضة بين المقاومة واتفاق الطائف. إنّ كلام رعد ذكّرني بما قلته لتلاميذي في صف البكالوريا في ثانوية حسن كامل الصباح في النبطية عام 1964 حول دور الشيعة في التاريخ «إنّهم عادة ما يطرحون المعادلات ويقومون بالثورات ولكنهم عادة ما يكونون أول الخاسرين فيها وربما أولى ضحاياها».