آخر «ابتكارات» العباقرة في الدستور الذين لم يقرأوا «اتفاق الطائف» يوماً، او «قرأوه بالمقلوب»، قولهم انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون سيلجأ إلى إصدار مرسوم قبول استقالة حكومة تصريف الاعمال إذا لم تُؤلف حكومة جديدة قبل انتهاء ولايته في 31 تشرين الاول المقبل ولم يُنتخب رئيس جديد يخلفه في سدّة رئاسة الجمهورية. ويبدو انّه غاب عن بال هؤلاء «العباقرة»، انّ هذا الامر، إن حدث، سيكون مخالفة فاضحة للدستور الذي أقسم الرئيس يمين الحفاظ عليه يوم انتخابه.
من يقرأ الدستور المنبثق من «اتفاق الطائف» يتبين له فوراً، وبلا أي تفسير او تأويل، أنّه لا يعطي رئيس الجمهورية هذه الصلاحية، ولا صلاحية المبادرة من تلقائه إلى تأليف حكومة على غرار ما كانت الحال قبل «اتفاق الطائف»، يوم كان رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية، يتولاها بمعاونة وزراء يختار من بينهم من يسمّيه «رئيس الوزراء» او «الوزير الاول»، حسبما يُسمّى في بعض دول المغرب العربي. وفي إمكانه ان يقيل الحكومة ساعة يشاء، وحتى من دون مبادرة رئيسها إلى الاستقالة.
فهذا الدستور «الطائفي» (نسبة إلى «اتفاق الطائف»)، يقول انّ رئيس الجمهورية يُصدِر منفرداً مرسوم قبول استقالة الحكومة المستقيلة، مشفوعاً بإصداره مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة الذي يوقّعه ورئيسها. فكيف له في هذه الحال، ان يُصدر مرسوم قبوله استقالة الحكومة، والتي اعتُبرت مستقيلة حكماً بعد تولّي مجلس النواب الجديد مهماته، وهي تصرّف الاعمال ولم تُؤلف بعد حكومة جديدة تخلفها وتتولّى مسؤولياتها الدستورية كسلطة تنفيذية جامعة تسمّى مجلس الوزراء؟ ثم انّه لو تمّ التسليم جدلاً، وهو أمر غير دستوري على الاطلاق، انّه يحق لرئيس الجمهورية إصدار مرسوم قبول استقالة حكومة تصريف الاعمال، فمن يتولّى إدارة شؤون البلاد في هذه الحال التي لا تعود لها أي صلاحية لتصريف الاعمال، خصوصاً اذا لم يُنتخب رئيس الجمهورية الجديد، الذي عليه ان يبادر بلا إبطاء بعد أدائه اليمين الدستورية وتسلّمه مهماته، إلى اجراء الاستشارات النيابية الملزمة ليسمّي بنتيجتها الشخصية التي تؤلف الحكومة الجديدة؟
ولذلك، ليس عبثاً ما نصّ عليه الدستور من انّه عند خلو سدة رئاسة الجمهورية لعلّة ما، يتولّى مجلس الوزراء وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية. وليس عبثاً ايضاً انّ الدستور لم يحدّد ماهية هذه الحكومة التي تتولّى صلاحيات الرئيس، أتكون حكومة مكتملة المواصفات الدستورية او حكومة تصريف الاعمال، ذلك لأنّ المشترع أخذ في الاعتبار هنا تلافي حصول فراغ في المؤسسات الدستورية، يشلّ كل إدارات الدولة ويعطلها. ومن هنا، فإنّ تولّي الحكومة الأصيلة او المستقيلة صلاحيات الرئيس هو لتجنّب الفراغ في سدّة الرئاسة ومنع تعطيل شؤون الدولة. وفي رأي البعض، انّ المسألة هنا (اي تحديد ماهية الحكومة) ليست ثغرة في الدستور المنبثق من «الطائف»، وان كان البعض يعتبرها ثغرة، فيمكن ان تُضاف إلى بعض الثغرات التي اكتُشفت فيه من خلال الممارسة، وفي الإمكان معالجتها في ظروف طبيعية، خصوصاً اذا كانت هذه الثغرات من النوع الذي يتطلب اجراء تعديل دستوري في شأنها.
غير انّ الملاحظ، انّ حديث البعض عن احتمال لجوء رئيس الجمهورية إلى اصدار مرسوم قبول استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تصرّف الاعمال، جاء ليخترق الأجواء المتفائلة بين بيروت ونيويورك وما بينهما، عن انّ التوافق على تأليف الحكومة هو في طريق الاكتمال، في انتظار عودة ميقاتي من اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، خصوصاً انّ الرأي، على ما يبدو، قد استقر على إبقاء الحكومة الحالية مع تغيير وزراء المال والاقتصاد والمهجرين والسياحة فيها، وذلك بعد صرف النظر عن توسيع هذه الحكومة لتصبح مكوّنة من 30 وزيراً بإضافة 6 وزراء دولة من السياسيين، وهو ما كان رئيس الجمهورية اقترحه على ميقاتي الذي قدّم له إثر انتهاء مشاوراته النيابية والسياسية تشكيلة تضمّ 24 وزيراً، حكومته الحالية، وتلحظ تغيير وزراء الطاقة والمهجرين والاقتصاد وليد فياض وعصام شرف الدين وامين سلام.
كذلك يأتي هذا الكلام عن إصدار عون مرسوم قبول استقالة الحكومة المستقيلة دستورياً اصلاً بلا مرسوم، فيما الجميع ينتظر عودة ميقاتي، الذي وعد إثر لقائه الاخير مع عون، انّه سيزوره في المرة المقبلة ويجلس معه طويلاً، وحتى ولو اضطر إلى النوم في القصر الجمهوري، حتى الاتفاق على الحكومة وإصدار مراسيم تشكيلها.
ويتخوف بعض السياسيين والمتتبعين من ان يكون الهدف من طرح هذا الامر المخالف للدستور، إحباط «التوافق المبدئي» الذي حصل بين المعنيين على تركيبة الحكومة العتيدة، التي يُفترض ان تولد الاسبوع المقبل او مطلع تشرين الاول. وبالتالي، ربما يريد اصحاب هذا الطرح إثارة جدل دستوري وإبقاء الاشتباك دائراً حول الحكومة، في الوقت الذي بدأ الوقت يدهم البلاد على مستوى إنجاز الاستحقاق الرئاسي قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية التي بقي منها حتى الآن 37 يوماً. ما يعني انّه إذا لم تُؤلف حكومة ولم يُنتخب رئيس جديد ستخلو سدّة الرئاسة ويحلّ الفراغ فيها، وسيدور في هذه الحال عراك سياسي ودستوري حول صلاحية حكومة تصريف الاعمال من عدمها في تولّي صلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة في حال الفراغ، إلى حين انتخاب الرئيس العتيد. وهناك من سأل: هل انّ من يسوّق لهذا الطرح دفع رئيس الجمهورية إلى اثارة فوضى دستورية سياسية عارمة في نهاية ولايته على قاعدة «عليَّ وعلى اعدائي» إذا لم يؤخذ بوجهة نظره بتأليف الحكومة، وكذلك إذا لم يتح له توقيع اتفاق الترسيم، ليكون أبرز انجازات عهده؟
بل انّ البعض ذهب في هذا السياق إلى أبعد من ذلك، بربطه محاولة إحداث اشتباك سياسي دستوري عبر دفع عون إلى اصدار مرسوم قبول استقالة الحكومة، الامر الذي يؤدي إلى تأخير توقيع الاتفاق الموعود على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل في خلال اسابيع متبقية من ولاية رئيس الجمهورية، وكذلك في وجود الحكومة الدستورية التي يُقال إنّها دخلت المخاض الاخير للولادة.
وثمة من خشي من ان تكون أيدٍ خفية دخلت في اليومين الماضيين على خط الايجابيات الشائعة حول الملف الحكومي، وكذلك حول الملف «الترسيمي» الذي كانت له حصة كبيرة من اللقاءات والاجتماعات التي عقدها الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين في نيويورك مع الجانبين اللبناني والاسرائيلي، وشاع في ضوئها انّ هناك «تقدّماً مهماً» حصل في هذا الاتجاه على حدّ ما عبّر عنه ميقاتي، الذي التقى هوكشتاين ووزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن، وهما لقاءان ركّزا بالتأكيد على ملف ترسيم الحدود ووجوب إقرار اسرائيل بحقوق لبنان بمياهه وثروته النفطية والغازية والبحرية.
وفي ضوء كل هذه المعطيات، يرى البعض انّه لا يجوز الإفراط في التفاؤل، لأنّ ما يلمع في أفق ملفي الحكومة والترسيم قد لا يكون ذهباً، او أقله لم ينضج كلياً بعد، وانّ الجهود المبذولة على جبهتي هذين الاستحقاقين ربما لا تزال في حاجة إلى مزيد من الوقت حتى تؤتي ثمارها المرجوة.