أقرّت كل الديانات السماوية بالطلاق مع فارق تسهيله عند بعضها وتصعيبه عند البعض الآخر تجنّباً للانفصال بين الزوجين عند كل منعطف وخلاف، ولكن جميع الديانات بارَكته عندما تتوفّر أسبابه الموجبة.
لا أحد يستطيع ان يُلزم الشريك بالعيش معه بالإكراه، والشراكة في الحياة لها أصولها وموجباتها، فإذا تحولّت الحياة إلى جحيم ولم تعد تُطاق فالطلاق يصبح حلا وخيارا ومطلبا ملحّا وضرورة قصوى، لأنّ الهدف ليس الزواج للزواج، إنما الزواج بهدف حياة مشتركة سعيدة. وغير صحيح انّ ما كتب لطرفين قد كتب، بل كل فرد قادر وعليه ان يقرِّر مصيره باعتبار ان الحياة قصيرة والانسان ولد للعيش والاستمتاع بهذه الحياة وليس لقهر نفسه لأيّ سبب من الأسباب.
وما ينطبق على الفرد في علاقاته الزوجية ينسحب على الشعوب التي مهمتها تنظيم عَيشها ضمن إطار دوَل ودساتير وقوانين تحفظ حقوقها وتحقِّق استقرارها وتؤمِّن ازدهارها، وغير صحيح إطلاقاً ان الشعوب وجدت لتقاتل وتحارب لأن هناك من قرّر اعتناق عقائد جوهرها الموت، ولكن هذا لا يُسقط حقها في اعتناق العقائد التي تتلاءم مع توجهاتها، إنما لا يحق لها ان تلزم غيرها بنمط عيشها وتفكيرها.
وإحدى المشاكل الأساسية والجوهرية والبنيوية في لبنان تكمن في تقديس العيش المشترك الذي تم رفعه من المرتبة الإنسانية إلى الإلهية، وهذا ليس خطأ إنما خطيئة، فيما النظرة إلى العيش المشترك تختلف بين خمس فئات لبنانية أساسية:
الفئة الأولى غير المؤمنة بالعيش المشترك وتتلطّى خلف تمسّكها به بانتظار الظروف التي تسمح لها بالإطاحة بهذا العيش لمصلحة مشروعها الطائفي او المذهبي، والذي يبدأ من طرح الديموقراطية العددية ولا ينتهي بالدعوة إلى خيار الأسلمة على طريقة الولي الفقيه بحجة الإقناع.
الفئة الثانية المؤمنة بالعيش معاً ولا تيأس من المحاولة على رغم ان فترة الصراع والانقسام بين اللبنانيين أطول بكثير من فترة الوحدة والتوافق، وعلى رغم أيضا ان التمسّك بالعيش معاً في ظل فئة رافضة للعيش المشترك يتحول إلى توجُّه بالإكراه والفرض.
الفئة الثالثة التي لا تقارب الأمور في عمقها وجوهرها وكل مقارباتها ترتكز على المزايدة أو ما يُعرف بفلسفة الفولكلور اللبناني، وهذه المدرسة التي تُنتج هذه الفلسفة أكثر مَن أساء للبنان.
الفئة الرابعة التي هدفها إقامة دولة وتعتبر التجربة الفاصلة بين الاستقلال والحرب نموذجية ويمكن تكرارها، وهذه الفئة تنظر إلى لبنان من واقعه التعددي، ولكنها تفضِّل مواصلة السعي باتجاه قيام دولة فعلية وليس المُجاهرة بالفصل والطلاق.
الفئة الخامسة التي ترى ان لا حلّ للأزمة اللبنانية سوى من خلال مشاريع تبدأ بالفدرالية وتنتهي بالتقسيم.
والمهمة الأولى المُلقاة على الفئة الخامسة إنزال العيش المشترك من المرتبة الإلهية إلى المرتبة البشرية، وإسقاط هذا «التابو» المحظّر على النقاش والمسمّى العيش معاً، فمن قال ان هذا العيش هو قدر اللبنانيين وانه مفروض عليهم بالقوة وان مصيرهم الموت المحتّم في حال انفصلوا عن بعضهم البعض؟
فالهدف الأساس لكل مواطن العيش بأمن واستقرار وازدهار وحرية وليس العيش معا، وإذا كانت الجماعات والأفراد المكوِّنة لدولة ضمن مساحة جغرافية واحدة متوافقة على العيش معا تحت سقف دولة وقيَم مشتركة وأهداف واحدة ورؤية موحدة، فيمكن وقتذاك إنجاح هذه التجربة والتمسُّك بها، ولكن إذا كانت المجموعات الحضارية غير منسجمة ولا متوافقة على بديهيات ومسلّمات أساسية فيجب الذهاب فورا نحو الطلاق والانفصال والتقسيم، وما هو غير مفهوم هذا الإصرار على العيش معا بين مجموعات تريد كل واحدة منها فرض أولوياتها وأجندتها وثقافتها على الأخرى؟
فالنظرة إلى الطلاق الزوجي في بعض مجتمعاتنا المتخلفة كانت حتى الأمس القريب عيباً، ولم تعد كذلك طبعاً باعتبار ان الطلاق هو خيار يتخذه المواطن الفرد انسجاماً مع هدفه الأسمى في الحياة وهو الحرية والراحة والطمأنينة والاستقرار، ولا يجوز ان تبقى النظرة إلى الطلاق بين اللبنانيين وكأنها عيب، خصوصا ان المستفيد الأول من الدفاع الفولكلوري عن العيش معاً هو الفريق الذي يريد تغيير هويّة البلد ويرفض الاتفاق مع سائر اللبنانيين على المساحات المشتركة التي تجمعهم وتختصر بدولة وشراكة ومساواة وحرية.
فإمّا ان يلتزم «حزب الله» بالدستور ويسلِّم سلاحه للدولة وإما الطلاق، لأن المستفيد من استمرار الوضع الحالي هو الحزب الذي يحقِّق مشروعه بالنقاط ومن خلال الاتكاء على الزمن والوقت، فمن يستطيع مثلاً ان ينزع سلاحه بالقوة؟ لا أحد. وهل هناك من يراهن مثلا على لبننته؟ رهان واهم وجُرِّب في العام 2005 وما زلنا حتى اليوم نعيش الانعكاسات السلبية لهذه التجربة التي فَوتّت فرصة تاريخية على اللبنانيين لتطبيق اتفاق الطائف. وهل هناك من يظنّ انّ الحزب سيسلِّم سلاحه طوعا وإيمانا منه بالتجربة اللبنانية؟ هذا وهم كبير أيضا. ويبقى الرهان على التطورات الخارجية، ولكن من قال ان هذه التطورات يمكن ان تحصل في المستقبل القريب او حتى البعيد؟
ويجب التمييز طبعا بين واجب الطلاق وضرورته مع «حزب الله»، وبين القدرة على تحقيق هذا الهدف، لأن الحزب لن يسمح بالطلاق باعتبار ان خطوة من هذا القبيل تنتزع منه مساحة جغرافية يعتبرها له ويعمل على تغيير هويتها مع الوقت في سياق مشروعه المذهبي، فضلاً عن انّ أحد أهدافه السيطرة على كل لبنان ومواصلة الإمساك بقرار الدولة وتجنُّب العيش في منطقة مذهبية يَسهل استهدافها وقابلة للانفجار من الداخل، وقد عبّر أحد المسؤولين في الحزب صراحة بأنه سيشنّ حربا عالمية ثالثة منعاً للتقسيم، ولكن من يرفض التقسيم عليه التسليم بشروط المجتمعات التعددية، فضلاً عن ان هذا المشروع أصبح مرفوضا في الدولة التي تصدِّره، اي إيران، فكيف يعقل تصدير ما يعمل الشعب الإيراني على إسقاطه، فيما هذا المشروع يتناقض في الشكل والجوهر مع طبيعة المجتمع اللبناني؟
والوصول إلى الطلاق يتطلّب أولاً كسر «التابو» بأنّ العيش معاً من المقدسات ويجب الحفاظ عليه، وبدء الترويج للطلاق علنا وجهارا، خصوصا ان المواجهة الكلاسيكية مع «حزب الله» وصلت إلى حدها الأقصى وما زالت مستمرة منذ العام 2005 ولم تؤد إلى نتيجة، واي مواجهة لا تؤدي إلى النتيجة المطلوبة يجب تغييرها والانتقال إلى مواجهة جديدة، لأنّ المواجهة القائمة منذ 17 سنة لم تعد تُزعج الحزب بعدما اعتاد عليها وأصبحت تجري تحت سقف سلاحه ودوره الإقليمي.
والوصول إلى الطلاق يتطلّب ثانياً نشوء ميزان قوى سياسي يدفع في هذا الاتجاه، لأنه لا يكفي الجهر بالطلاق والدعوة إليه في ظل فريق مُصرّ على فرض الوحدة بشروطه وبالقوة وخلافاً لما هو متعارف عليه بين الشعوب وفي كل دول العالم ودساتيرها، ما يعني ان الطلاق غير قابل للتحقُّق من دون ميزان قوى يحمل هذا المشروع ويدفع باتجاه تطبيقه بقوة الأمر الواقع.
والخلل الكبير في المواجهة مع «حزب الله» لا يتعلّق فقط بأنه مسلّح والفريق الآخر أعزل، إنما أيضا لأن الفريق الخصم للحزب يتبنّى وجهة نظر كلاسيكية، فيما إنهاء الأزمة لا يمكن ان يتحقّق سوى من خلال تبنّي الفريق الخصم لوجهة نظر غير كلاسيكية من أجل وضع الحزب أمام خيارين: الطلاق أو العودة إلى المرجعيات اللبنانية المتّفق حولها: اتفاق الطائف، الجامعة العربية، وقرارات الشرعية الدولية.
وقد يكون الأحب على قلب جميع اللبنانيين بقاء لبنان واحدا موحّدا، ولكن إصرار «حزب الله» على سلاحه ودوره ومشروعه المذهبي وإبقاء لبنان ساحة قراره في طهران يستدعي الانتقال إلى مواجهة جديدة بعدما أظهرت الوقائع ان المواجهة القائمة لم تحقِّق النتائج المرجوة في العبور إلى الدولة، لأنّ الهدف النهائي الوصول إلى استقرار وازدهار ودولة طبيعية يعيش فيها المواطن بكنف دولة ودستور وقانون وقضاء وعدالة وحرية ومساواة.
وأخيراً، الشعب اللبناني ليس قاصرا ويستطيع ان يقرِّر مصيره، والطلاق ليس خطيئة دينية وليس بطبيعة الحال خطيئة وطنية، إنما يشكّل خيارا ضروريا وملزما عندما تُثبت الوقائع تعذُّر العيش معا تحت سقف واحد زوجي أو وطني، والخطيئة الفعلية تكمن في القبول بالعيش في وطن حَوّله «حزب الله» إلى ساحة مُعلّقاً تطبيق الدستور ومُغيّباً العدالة وضارباً مبدأ المساواة وخاطفاً لقرار الدولة ومُسقطاً لقيمة الإنسان من قيمة مطلقة في هذا الكون إلى أداة موت