IMLebanon

من المسؤول عن تنفيذ «الطائف»؟

 

من المفارقات العجيبة الغريبة في لبنان انّ الجميع من رؤساء ووزراء ونواب يؤكدون تمسّكهم باتفاق الطائف ويطالبون باستكمال تطبيقه وكأنّ هناك جهة غيرهم هي المسؤولة عن تطبيقه او تقف حائلاً دون ذلك، مُتناسين انهم هم المسؤولون عملياً عن هذا التطبيق وقد جاؤوا الى السلطة بموجب هذا «الطائف».

وفي مراجعة لنصوص الاتفاق التي نفدت مشوّهة وتلك التي لم تنفذ بعد، تظهر مسؤولية هؤلاء الاولى والاخيرة عمّا نفّذ وما لم ينفذ من بنود، ما يطرح السؤال عمّن يطالبون القيام بهذه المهمة.

المسؤول عمّا نفّذ من «الطائف» وما لم ينفذ هو بالتكافل والتضامن مجلس النواب، بل كل المجالس النيابية وكل الحكومات التي تعاقبت بعد ترجمة نصوص هذا الاتفاق مواد دستورية منذ العام 1990 والى الآن، فما نفّذ جاء على قياس مصالح كل القوى السياسية والطائفية التي شاركت في السلطة اي في المجالس والحكومات وحتى في تولّي المواقع الكبرى الادارات العامة على اختلافها.

وفي مراجعة لنصوص «اتفاق الطائف» يظهر المعلوم والمستور حول مسؤولية المعنيين وتقصيرهم الفاضح وتهريبهم من تنفيذ بنود هذا الاتفاق بكاملها كما يجب، إذ ما من دولة في العالم تهمل تنفيذ دستورها او تنفذه بنحوٍ يحرفه عن مواضعه الا لبنان.

وابرز الدلائل على مسؤولية المجالس النيابية والحكومات عن تنفيذ الاتفاق هي الآتية:
اولاً، نصت المادة 95 من الدستور في فقرتها الاولى على الآتي: «على مجلس النواب المنتخب على اساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لإلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم بالاضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سسياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة درس الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها الى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية».
ومنذ العام 1990 حيث جرى تعديل الدستور بموجب اتفاق الطائف انتخبت 7 الى 8 مجالس نيابية على اساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وحصلت بضع محاولات يتيمة لإلغاء الطائفية ومنها رسالة وجّهها الرئيس الراحل الياس الهراوي الى مجلس النواب طالباً الشروع في اتخاذ الاجراءات اللازمة لإلغاء الطائفية، ولكن هذه الرسالة لم يستجب لها، ورئيس مجلس النواب نبيه بري قام بأربع محاولات لإلغاء الطائفية، بحسب ما قال في الآونة الاخيرة، ولكن من دون جدوى، لأنّ الطائفية في النفوس ما زالت غالبة على النصوص مُبقية البلاد في بوتقة الطائفية البغيضة التي تتخذ من الاديان غطاء خدمة للمصالح السياسية والفئوية وغيرها من المصالح على حساب مستقبل لبنان وأجياله.
حتى انّ إلغاء الطائفية الوظيفة العامة من دون الفئة الاولى التي قضى «اتفاق الطائف» بإلغائها عبر اعتماد الكفاية والاختصاص في التوظيف وليس المناصفة ولا حتى قاعدة «6 و6 مكرر» التي كان معمولاً بها قبل الاتفاق، لم تلتزم نتائج المباريات التي يجريها مجلس الخدمة المدنية لاختيار الموظفين الاكفّاء لمختلف الادارات العامة كما تصدر، اذ كان يلجأ والى الآن الى الـ»6 و6 مكرر» او المناصفة، مع ان هذه المناصفة حصرها الدستور فقط وموقتاً (بحسب المادة 95 منه) بوظائف الفئة الاولى وفي تأليف الحكومات وفي المجالس النيابية. فإلغاء طائفية الوظيفة العامة من دون الفئة الاولى التي أُريد منها ان تشكل البنية التحتية لإلغاء الطائفية، تحولت على يد الطبقة السياسية التي تتعاقب على السلطة في البلاد منذ اإقرار «اتفاق الطائف» عنصراً مكرّساً للطائفية ومانعاً قوياً لإلغائها، بل انها تحولت ميزاناً لثقافة «العد والعدد» التي تكرّس الانقسام بين اللبنانيين وتزيد المخاوف المتبادلة فيما بينهم من طغيان فريق عددياً على الفريق الآخر.
ثانياً، إهمال انشاء مجلس الشيوخ المنصوص عنه في المادة 22 من الدستور، حيث يرتبط إشاؤه بإلغاء الطائفية السياسية اذ تنص هذه المادة على الآتي:
«مع انتخاب اول مجلس نيابي على اساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس شيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية».
فإلى الآن وبعد مرور 33 عاما على اقرار «اتفاق الطائف» واعتماده دستورا للبلاد لم تلغ الطائفية ولم ينتخب اي مجلس نيابي على اساس وطني لا طائفي حتى يتم انشاء مجلس الشيوخ، لأنّ من أولى نتائج إلغاء الطائفية السياسية ان يصبح انتخاب المجالس النيابية على اساس وطني لا طائفي وعلى اساس الدوائر الكبرى بعد اعادة النظر في التقسيم الاداري.
ـ ثالثاً، اللامركزية الموسّعة التي نادى بها «اتفاق الطائف» ما زالت حبرا على ورق، فهي لم تطبّق لأن كل فريق فسّرها ويفسرها بحسب اهوائه ومصالحه، فهذا يريدها موسعة وذاك يريدها ضيقة وثالث يريدها ان تجعل من كل منطقة «كانتوناً» مستقلاً بذاته ادارياً ومالياً وحتى سياسياً، اذ انه بموجب هذه اللامركزية التي اراد «الطائف» منها تقريب ادارات الدولة المركزية الى المناطق بإحداث فروع لكل الادارات العامة فيها بما يعزّز إنماءها وتطورها وتفاعلها مع السلطة المركزية، كذلك تقضي هذه اللامركزية ان يكون لكل منطقة مجلس خاص يرعى شؤونها وينتخب اعضاؤه او يعيّنون من بين ابنائها ويتولى رعاية شؤونها الانمائية والعامة.

ولكن يبدو ان هذا الامر اسكن الطبقة السياسية بهاجس الخوف على مصالحها السياسية والتمثيلية وهي تجد فيه، اذا نَشأ، ما يهدد مصالحها في الانتخابات النيابية لأن كل عضو ينتخب او يعيّن في مجالس المناطق يتحول مشروع نائب في مجلس النواب من شأنه ان يحتل مقعد نائب في هذا المجلس، خصوصا اذا كان ابن منطقته في كل دورة انتخابية.

ولذلك لم تنفذ اللامركزية الادارية التي من شأنها ان تساهم في تحقيق الانماء المتوازن للمناطق ولأبنائها ايّاً كانت انتماءاتهم الطائفية او السياسية، في حين ان ما يُحكى عنه من إنماء متوازن (وقد قضى به اتفاق الطائف ايضا) حصل او لم يحصل هو ليس بمتوازن لأنه من نتاج سياسة المحاصصة بين القوى السياسية التي شملت كل شيء حتى في لقمة عيش الناس.

فالانماء المتوازن في الاصل ليس محاصصة في توزيع المشاريع الانمائية على المناطق عشوائياً او بحسب انتماء ابنائها الطائفي والسياسي ضمن لعبة المحاصصة في توزيع مغانم السلطة، وإنما يقوم على تنفيذ المشاريع الانمائية في هذه المنطقة او تلك بحسب حاجتها لأيّ نوع من هذه المشاريع.

هذا غيض من فيض ما لم ينفذ او نُفّذ مشوّهاً من بنود اتفاق الطائف الذي ما من احد مسؤول عن تنفيذه الا المجالس النيابية والحكومات التي انبثقت وتنبثق منه منذ العام 1990. فلماذا التعمية وتجهيل المسؤول والهروب من الواقع عبر تكرار المطالبة المُطلقة باستكمال تطبيق هذا «الطائف» وتأكيد «التمسّك» به وكأنّ هناك من يريد إسقاطه فيما هو نصوص دستورية ليس من السهل على أي جهة انتزاعها؟