لقد قدّم البطريرك الراعي في عظة الأحد 20 حزيران 2021 تشخيصاً صائباً للأزمة اللبنانيّة. فوصفها بأنّها أزمة مسؤوليّات وليست أزمة صلاحيّات. وبدعة الصلاحيّات هذه ابتكرها العماد عون يوم كان رئيساً للحكومة العسكريّة في نهاية ثمانينات القرن المنصرم ليعلن هجومه على اتّفاق الطّائف. وتابع حملها حتّى بعدما أصبح رئيساً للجمهوريّة بفعل هذا الاتّفاق عينه. واليوم صهره الوزير باسيل بعدما أصبح هو الوريث الوحيد لإرث العماد عاد ورفع الشعار نفسه. متى سينتقل الساسة اللبنانيّون من الشعارات الغوغائيّة والشعبويّة إلى مرحلة التّطبيق والتحلّي بالمسؤوليّة الوطنيّة؟
من المهمّ أوّلاً النّظر إلى طبيعة النّظام اللبناني قبل الطّائف الذي كان يعتبر مزيجاً بين النّظامين الرئاسي والبرلماني من جهة، حيث كان رئيس الجمهوريّة الحاكم بأمر الله، لكنّه لم يستعمل الصلاحيّات التي أناطها الدّستور به إلا مرّات قليلة. ولا بدّ من الاعتراف بأنّ اتّفاق الطّائف قد قلّص من صلاحيّات الرّئيس وأناطها بالحكومة مجتمعة نظراً لأنّ المجتمع اللبناني هو مجتمع تعدّدي، وذلك بغية الوصول إلى نظام مجلسي يتمّ اتّخاذ القرارات فيه بالتّوافق والتصويت في حال تعذّر ذلك. لكن التّطبيق المعتوِر لهذا الاتّفاق جعل المسيحيّين في موقع المستضعَف بعدما أخرجهم الاحتلال السوري من تركيبة الحكم.
ومن المتعارف عليه في علم السياسة أنّ البلدان التعدّديّة تتّبع نظماً اتّحاديّة، وتحكمها مجالس رئاسيّة، أو بأسوأ الحالات تتمتّع باستقلاليّة ذاتيّة في أقاليمها وتترك القرارات المصيريّة للحكومة الاتّحاديّة. لعلّ هذا ما حاول اتّفاق الطّائف أن يصبو إليه. لكنّه أثبت فشله ليس لأنّه بحدّ ذاته اتّفاق فاشل، بل لأنّ المحتلّ السوري منع تطبيقه، والأكثر ترك فيه ثغرات دستوريّة ليدخل عبرها إلى صلب النّظام اللبناني السياسي. وقد نجح بذلك، حيث تحوّل مركز الحكم إلى البوريفاج وعنجر وصارت الحكومة أداة بيد المحتلّ السوري وقتذاك. وتابع المهام بنجاح “حزب الله” بعد خروج السوري، إلى أن استطاع تكريس عرف الثلث المعطّل باتّفاق الدّوحة 2008 الذي فرضه بقوّة سلاحه.
إن دلّ ذلك على شيء فهو يشير إلى أنّ اللبنانيّين الذين خضعوا للاحتلال السوري قبل الـ 2005، والذين بايعوا “حزب الله” في 6 شباط 2006 قد تخلّوا عن مسؤوليّاتهم لصالح هيمنة الحزب على القرار السيادي في الدّولة، تماماً كما كان المحتلّ السوري يهيمن على الدّولة اللبنانيّة وقراراتها. ومقابل ذلك انصرف فريق العماد عون قبل أن يصبح رئيساً ليحمل شعار استرجاع الصلاحيّات الرئاسيّة التي كما ذكرنا قلّصها الطّائف تحت مسمّى “حقوق المسيحيّين”. ولا يمكن إلا الاعتراف بأنّ الخطاب الطائفي التجييشي قد أثار غرائز المسيحيّين الموهومين بخديعة الصلاحيّات، وهذا ما أمّن للعماد عون كتلة نيابيّة وازنة؛ ليتبيّن بالممارسة أنّ هذه مجرّد شعارات غير قابلة للتطبيق لأنّ هذا الفريق قد تخلّى عن مسؤوليّاته السياسيّة. وعاد الصهر الوريث ليتابع في النهج نفسه متناسياً تصنيف الصحافة الأجنبيّة له بأنّه الشخص المكروه كثيراً من قبل الشعب اللبناني. ما يعني أنّ هذه الشعارات لم تعد تنطلي على أحد اليوم.
المطلوب من السلطة السياسيّة أن تتحمّل مسؤوليّاتها كما أشار سيّد بكركي، ومطلوب أن تتّخذ قرارات جريئة بوقف التهريب نهائيّاً، للحدّ من الانهيار الاجتماعي- الاقتصادي، بحدّه الأدنى على الأقلّ. والمطلوب من هذه الحكومة أن تنجز البطاقة التمويليّة من خارج ودائع النّاس وإلا لمَ هم في موقع المسؤوليّة؟ إن لم يتحلّوا بحسّ المسؤوليّة فليتنحّوا جميعهم ولنذهب إلى الانتخابات النيابيّة لإعادة إنتاج السلطة على قواعد جديدة.
فإذاً حقيقة الأزمة كما شخّصها سيّد بكركي تكمن في عدم رغبة أيّ ممّن هم في سدّة الحكم بتحمّل مسؤوليّاتهم. أمّا بدعة الصلاحيّات هذه فيبحث بها لتطوير النّظام بعد العمل على تطبيقه لسدّ الثغرات الدّستوريّة الموجودة فيه. لكن أوّلاً يجب تأمين أبسط مستلزمات الوجود من مأكل ومشرب وأمان وفق القواعد التي وضعها علماء الاجتماع، ليستقيم المجتمع. فهذه إذاً نتيجة لعدم التحلّي بحسّ المسؤوليّة وليست سبباً أو مبرِّراً لما وصلنا إليه كما يحاول هذا الفريق دوماً الايحاء. والانهيار هو نتيجة لعدم المسؤوليّة، وإن استمرّ هذا الفريق بالنّهج نفسه سنصل حتماً إلى تحلّل الدّولة وتفكّكها. وهنا تتجلّى مخاوف الدّول الغربيّة الدّاعمة للسيادة والحرّيّة في لبنان من خلال دعمها للمؤسّسات الأمنيّة والجيش اللبناني للحفاظ على صلابة ووجوديّة الدولة التي تبدأ بالحفاظ على كيانيّتها.
أمّا إذا كان ما يرسمه محور الممانعة للبنان هو تسييب الدّولة من خلال تخلّي المسؤولين السياسيّين عن مسؤوليّاتهم فهذا المخطّط لن يمرّ لأنّ لحظة الحرّيّة التي ستطيح بهذه المنظومة باتت قريبة جدّاً. والمراهنة على جوائز الترضية الدّولية هي مراهنة ساقطة بفعل ممارسة الوجود اللبناني الحرّ الذي لا يستطيع أحد أن ينزعه من الكينونة الكوزموبوليتيّة. عندها فقط نبني لبنان الغد. فهل سيتكتّل اللبنانيّون مسلمين ومسيحيّين، ليوجِدوا لحظة الحرّيّة هذه قبل موعد الانتخابات النيابيّة؟ أم سننتظر قرابة السنة لننجح في التغيير؟