حتى لو تمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية، حتى لو تمّ تشكيل حكومة جديدة، حتى لو «قلّعت» الحكومة الجديدة وباشرت عملها وعقد جلساتها، لا شيء سيتغيّر نحو الأحسن، بل إنّ الأمور ستواصل انحدارها وانهيارها.
منذ ما بعد الطائف، وصولاً إلى اليوم، توالى أكثر من عهد وأكثر من رئيس جمهورية وأكثر من رئيس حكومة، فماذا تحقق؟ لا شيء. العهود التي أتت لم تكن متشابهة، فعهد الرئيس أميل لحود لم يكن يشبه عهد الرئيس الياس الهراوي، لا بل جاء لينقضه، وعهد الرئيس ميشال سليمان لم يكن كالعهدين اللذين سبقاه، وبالتأكيد عهد الرئيس ميشال عون كان مختلفاً عن كل العهود التي سبقت.
إختلفت هذه العهود عن بعضها البعض لكن جامعاً مشتركاً شكّل نقطة التقاء بينها، وهو: لا إمكانية لقيام البلد في ظل هذا النظام. ونسارع إلى القول: ليس المقصود «اتفاق الطائف»، بل النظام المسخ المشوَّه الذي صُوِّر زوراً وبهتاناً على أنّه الطائف. عملياً حُكِم البلد منذ خريف 1990، بنظام «تعليق دستور الطائف» وليس بنظام دستور الطائف. كان الحكم يُدار من عنجر، مقر اللواء غازي كنعان، الحاكم الفعلي للبنان، وليس من الرملة البيضاء، المقر الموقت لرئاسة الجمهورية.
كانت الحكومات تُشكَّل على طاولته، وكانت قوانين الانتخابات النيابية تُفصَّل في مكتبه. تحدث الطائف عن رفع عدد المقاعد النيابية إلى 108 نواب، فرفعها اللواء غازي كنعان إلى 128 نائباً. تحدث الطائف عن انتخابات نيابية على أساس المحافظة، بعد إعادة النظر بالتقسيمات الإدارية، فجاءت الإنتخابات على أساس القضاء والدائرة الفردية ودمج قضاءين ومحافظة، وكلها في قانون واحد هجين، إرضاءً لهذا أو ذاك، وتسهيلاً لفوز هذا أو ذاك، أو لمنع فوز هذا او ذاك.
تحدث الطائف عن مقر مستقل لمجلس الوزراء، لكن هذا لم يحصل سوى مرات يتيمة في مطلع عهد الرئيس اميل لحود، فكان هناك مقر مستقل في مبنى تابع للجامعة اللبنانية قرب المتحف، لكن الفكرة أفرِغت من مضمونها لأنّه لم تُلحق أي دائرة من دوائر مجلس الوزراء بالمقر في المتحف، فعاد القديم إلى قِدمِه من خلال عقد جلسات مجلس الوزراء مداورة بين قصر بعبدا والسراي الحكومي.
هكذا كان يُدار الحكم طوال كل فترة الحقبة السورية، التي امتدت خمسة عشر عاماً. بعد الإنسحاب السوري من لبنان، في نيسان من العام 2005، اعتقد اللبنانيون أنّ مرحلة تطبيق الطائف قد بدأت مع انحسار نظام الوصاية السورية، لكن سرعان ما خاب ظنهم: أكثرية في مجلس النواب لم تُعطهم الحكم وفق هذه الاكثرية، فكان حكمٌ مسخٌ شكّل امتداداً لِما كان الوضع عليه خلال الحقبة السورية. هذا غيض من فيص التشوهات…
ويُظلَم اتفاق الطائف حين يُقال «إن الطائف خدم عسكريته»، الطائف لم يُطبَّق، بل الذي طُبِّق نظامٌ هجين لا علاقة له بالطائف، وُضِع على عجل وطُبِّق كل يوم بيومه، ومن فرطِ التبديل فيه، بحسب الظروف وتعديل موازين القوى، تصدَّع وتعطّل ولم يعد قابلاً للحياة. وما تعيشه الحياة السياسية اليوم من أزمات ومآزق، سببها أنّ النظام معطّل ولا يعمل، والطائف منه براء.