كان الرئيس دوايت أيزنهاور يقول: «لكي تحل مشكلة، كبّرها». لكن فن السياسة في لبنان قائم على منطق مختلف، اذا كان يمكن ان نستخدم تعبير «منطق» حيال ألاعيب السياسيين الجهنمية. فالسياسة في ما كان بلد التسويات ليست في الأساس لحل المشكلة، وبالتالي لتكبيرها من أجل حلّها. وهي صارت لعبة لتصغير المشكلة وأحياناً تجاهلها هرباً من الحل وحتى من التسوية. اليوم يبدو العجز عن فعل أي شيء حيال الإستحقاق الرئاسي المحكوم بمأزق كامل لا مخرج منه في الأفق كأنه يدفع نحو تكبير المشكلة على أمل الخروج من المأزق بتغيير الموضوع. شيء من القفز من فوق مشكلة الشغور الرئاسي الى أزمة الجمهورية والنظام. وشيء من البحث عن حل جذري او غير عادي لأن الحل الطبيعي والعادي متعذر.
أبسط ما نسمعه دعوات الى أي شيء بعدما صار الشغور الرئاسي مشكلة متكررة، والرئاسة نفسها مشكلة سواء لجهه الشكوى من نقص الصلاحيات او لجهة الطموح لدى طرف قوي للقبض على الرئاسة ومعها الجمهورية: دولة مدنية، دولة المواطنة، مؤتمر تأسيسي، فيدرالية، لامركزية إدارية ومالية واسعة. تطبيق الطائف نصاً وروحاً، إنتداب دولي، وترك الأمور على حالها حتى يكتمل الإنهيار، ويقرر طرف قوي الإمساك بالسلطة الكاملة رسمياً. ولا شيء من كل هذا يبدو ممكناً او سهلاً، سواء على البارد او على الحامي.
ذلك ان الباب الذي فتحه إتفاق الطائف للذهاب على مراحل الى دولة المواطنة المدنية جرى إغلاقه منذ صار الطائف دستوراً. وبدل إنشاء الهيئة الوطنية لدراسة السبل الآيلة الى تجاوز الطائفية وإلغاء الطائفية السياسية، صار الإندفاع في الإتجاه المعاكس نحو المذهبية والمزيد من الطائفية وسوء إدارة الطائفية السياسية. المؤتمر التأسيسي يعني ان الطرف القوي يفرض على الآخرين ما يريده في النظام الجديد بسبب الخلل في موازين القوى، وهذا يؤدي الى أزمة وطنية كبيرة وخطيرة لا نهاية لها. واذا كان لبنان قد دفع ثمن حرب محلية وإقليمية ودولية دامت 15 سنة للتوصل الى إتفاق الطائف، فما هو ثمن المؤتمر التأسيسي وثمن ما بعده؟
الفيدرالية ممكنة وجيدة في البلدان التي لا خلاف بين مواطنيها على السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية بل على سياسات التنمية والتعليم والثقافة. والخلاف الجوهري في لبنان هو على السياسات الخارجية والدفاعية. اللامركزية الإدارية مشروعها جاهز أعدّه الوزير زياد بارود ايام الرئيس ميشال سليمان، لكنه ممنوع من التنفيذ مثل «إعلان بعبدا». الإنتداب الدولي فكرة انتهى زمانها منذ قرن. وإمساك طرف قوي بالسلطة كلها رسمياً هو وصفة لحرب أهلية دائمة، على افتراض انه ممكن او انه في الحسابات على المدى المنظور.
وليس جديداً ان نسمع من خبراء في الدستور وأصحاب آراء نزيهة في السياسة ما خلاصته ان المشكلة ليست في الدستور، وان كان يحتاج الى بعض التعديل في ضوء الممارسة، بل في تعليق الدستور وادارة السياسة بالقوة. والمشكلة ليست في النظام، وان كان من الأفضل ان يكون علمانياً، بل في إدارة النظام والسلطة والمؤسسات. المشكلة هي في التركيبة السياسية التي لا تتغير، ولا تتخلى عن مصالحها الشخصية والفئوية، ولا توافق على الإصلاحات المطلوبة، والتي صارت عملياً مافيا سياسية ومالية وميليشيوية حاكمة ومتحكمة. وأزمة الشغور الرئاسي هي أزمة الصراع بين من يريد استمرار الوضع ولو انتهى الشغور، ومن يريد التغيير او اقله بداية رئاسية للتغيير.
يقول دانتي أليغري في «الكوميديا الإلهية»: «رأيت في أروقة الجحيم بشراً لا يعيشون ولا يموتون». أما في الكوميديا-التراجيديا اللبنانية، فإن ما نراه هو مواطنون لا يعيشون وأركان مافيا لا يموتون.