Site icon IMLebanon

“الطائف” آخر “الشهداء الأحياء”

 

 

 

يمكن القول بأسف شديد إن “اتفاق الطائف” صار في عداد الشهداء الأحياء. وإذ أنه لم يسلم يوماً من غدر أعدائه الأصليين، فإن تخاذل أهله وذوي القربى على السواء أتاح عملية التفخيخ انتهاءً بـ”تزييت” صاعق التفجير.

 

لم يوقف “الطائف” الحرب ولا شكَّل أداة تنفيذية لالغاء خطوط التماس فحسب، بل أراد استعادة الدولة وترميم النسيج اللبناني. استند الى فلسفة دولة “لبنان الكبير” التي قامت على التعايش الاسلامي المسيحي، آخذاً في الاعتبار ما فرضته موازين القوى المحلية والإقليمية. وهكذا حاول “الطائف” تحديث الصيغة محمّلاً المسلمين مسؤولية صيانتها بفعل أرجحيتهم بنسختها الجديدة، مثلما ألقي عبء “الجمهورية الأولى” على المسيحيين لأنهم رواد صناعتها فلم يتمكنوا من الحفاظ عليها ووصلنا الى حرب الـ75.

 

يمكن تحميل الوصاية السورية التي أدارت اللعبة السياسية على مدى خمسة عشر عاماً مسؤولية أساسية عن “الانقلاب على الطائف” الذي بدأ فور المباشرة بخطوات التنفيذ من خلال الاستتباع والأتباع، سواء كانوا رؤساء ووزراء ونواباً أم ضباطاً وقضاة ورجال دين وأعمال، أو من سائر المستويات. لكن ذلك لا يعفي اللاعبين المحليين الكبار من مسؤولية الفشل، إذ كانوا شركاء في لعبة الهيمنة المقرونة بالفساد على حساب “الشراكة الوطنية” والسيادة والاستقلال، واستمروا بها بأساليب مختلفة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان.

 

هو شرح يطول. واللبنانيون يعلمون من ارتكب الجريمة في حقهم منذ ثلاثة عقود، ويعرفون كيف يوزعون المسؤوليات رغم “لعبة الكراسي” التي لم تغيّر في مسرح النهب وانتهاك دولة القانون. أما اذا أردنا عنواناً لمسيرة “الطائف” التي أسقطت “الجمهورية الثانية” فلا يصلح سوى “تحالف الفساد والسلاح” الذي يكثّف المعاني والأفعال ويغني عن التفاصيل والأسماء.

 

الصراحة واجبة. فبعد الكارثة التي تسببت بها منظومة سرّاق المال العام الرافعة لواء الدستور والمناصفة والخانعة لما جرى عليه من تعديلات بالقوة من خلال “الثلاثية” الشهيرة او وقائع “الدوحة”، وبعد ممارسات تعطيل المؤسسات الدستورية المتكررة والتنازع الطائفي والمذهبي على الحصص، وبعد تآمر الطبقة الحاكمة برمتها على التحقيق في جريمة تفجير 4 آب، بات ملحاً سؤال أين الدولة التي بناها أهل “الطائف” ولماذا نراها تنكشف أمام التهميش في حق مناطق أفقرتها ولم تطلها يد النماء؟ ولماذا تسقط في فخ “الحصانات” وتندثر امام محطات البنزين وتفتح المجال واسعاً للغوغاء ولغة الاستقواء واستهداف الآمنين بالرصاص الطائش أو في قرى التجاور الطائفي؟

 

شكلت الثورة التي انطلقت في 17 تشرين أملاً في إعادة تأسيس البلاد على قاعدة المدنية والنزاهة والمساواة، لكن قوى “الثورة المضادة” الداعمة لرئيس أسقط على مدى مسيرته مقومات الكيان، بددت الحلم والوهم على السواء. وكان صوت البطريرك الراعي الداعي الى “الحياد” الناشط ومؤتمر دولي الصرخة الأخيرة قبل “صلاة الاستسقاء” على صيغة لا يتركها محب للبنان ومؤمن بالمواطنية عن طيب خاطر، بل لأن الشركاء المولجين خصوصاً حمايتها بـ”أشفار العيون” غضوا الطرف معتقدين بأنهم يستطيعون اعتلاء فيل يدخل معرض كريستال.

 

ليس “الطائف” مُنزلاً بكل الأحوال. كان محاولة صادقة ونبيلة، لكنه ربما ناسَبَ شعباً ناضج التجربة ونادماً على بحور الدماء وجيراناً لا يشبهون مطلقاً جيران لبنان. لذلك فلنتوقف عن البكاء على “مُلك مُضاع” متمسكين بالسيادة والوحدة ومرحبين بمناقشة كل اقتراح يضمن العيش الآمن والمتحضر في لبنان بلا عقد ولا تابوهات.

 

مشاريع التغيير والدساتير مثل المعاني “مطروحة في الطرقات”، لكنها في انتظار النيات والصياغات.