IMLebanon

ما العمل في ظلّ ثلاث استحالات؟

 

 

يُفترض ان تشكّل حرب غزة وانخراط «حزب الله» فيها من دون العودة إلى أحد في لبنان، مناسبةً للتفكير في كيفية معالجة الأزمة البنيوية للجمهورية اللبنانية وليس أزمة رئاسة الجمهورية بإنهاء الشغور فيها حصراً.

لولا الشغور الرئاسي في العام 1988 و»حرب التحرير» التي أعلنها العماد ميشال عون لما حصل مؤتمر الطائف الذي صدرت عنه «وثيقة الوفاق الوطني»، على رغم انّ معظم التعديلات التي تضمّنتها الوثيقة كانت ترجمةً لمؤتمرات ووثائق ولقاءات، ولكن المقصود قوله انّ مومنتم الشغور الرئاسي أدّى إلى الدفع الدولي لانعقاد مؤتمر الطائف، لأنّه لولا الشغور لما كُلِّف عون بترؤس الحكومة الانتقالية، ولما أعلن «حرب التحرير» التي لا تختلف في شكلها ومضمونها ونتائجها عن حرب «طوفان الأقصى» التي أعلنتها حركة «حماس».

 

وبما أنّ لبنان اليوم وسط شغور رئاسي، ومسؤولية هذا الشغور تقع على فريق الممانعة غير القادر على انتخاب مرشحه والرافض في الوقت نفسه فتح جلسة بدورات متتالية، وبما انّ كل المحاولات الداخلية والخارجية لانتخاب رئيس لم تُسفر عن اي نتيجة، فإنّه حتى لو انُتخب رئيس يمارس قناعاته وفقاً للدستور من دون ان يتأثّر بموازين القوى السياسية، فلن تقدِّم ولن تؤخِّر هذه الانتخابات في جوهر الأزمة اللبنانية، ومن المستحسن نقل التركيز والاهتمام إلى كيفية معالجة أزمة الجمهورية اللبنانية التي انتكست مع نكسة حرب العام 1967 وما زالت منتكسة.

 

وفي حال تمّ استثناء الحواجز الجغرافية بين المناطق في ثمانينات القرن الماضي، فإنّ الوضع اليوم أسوأ من وضع الأمس، بدءاً من الحواجز النفسية والانقسام السياسي العمودي، وصولًا إلى الانهيار المالي وتفكُّك الدولة وضعفها، وما بينهما لا دستور ولا مؤسسات، ومعلوم أنّ أقصى ما يمكن ان ينتج من انتخاب رئيس جديد يكمن في عودة الانتظام الدستوري، ولكن الأزمة المتعلقة بسلاح «حزب الله» ستراوح، وما لم تُعالج هذه الأزمة يعني استمرار الانقسام والخلاف، فضلًا عن انّ التجربة أثبتت بأنّ معالجة الأزمة المالية في ظل القوى الممسكة بمفاصل الدولة لن يتحقّق، و»لو بدا تشتي غيّمت».

 

فمن يريد إخراج الجمهورية اللبنانية من أزمتها يفترض بالتوازي مع البحث والمطالبة بانتخاب رئيس للجمهورية، أن يدعو بصراحة إلى ضرورة الشروع في ورشة نقاش حول مستقبل لبنان وشعبه، تحت عنوان عدم جواز تمديد الأزمة اللبنانية، واي انتخابات رئاسية في ظل الوضع الراهن هي تمديد للأزمة او التوصُّل إلى حلول جزئية ومؤقتة مع قوى سياسية ليست في وارد الإصلاح، فيما الشعب اللبناني من حقه الحياة ولم يعد يحتمل استمرار هذه الأزمة التي تجاوز عمرها الخمسة عقود.

 

 

ولا شك انّ الفريق الذي يريد إبقاء لبنان ساحة إقليمية، ويعمل على ضرب تعدديته من أجل ان تتحكّم أحادية مذهبية بقراره، لن يتهاون مع اي مساعٍ لإنهاء الأزمة اللبنانية، ولكن هذا لا يعفي القوى السياسية التي تريد دولة ودستوراً واستقراراً وازدهاراً من الدفع باتجاه فتح النقاش في أزمة الجمهورية.

 

ولا يفترض انطلاق البحث من اي أفكار مسبقة من قبيل الإصرار على اتفاق الطائف او الفيدرالية او التقسيم او سلاح «حزب الله» او سواها، إنما من الضروري انطلاق النقاش من المبادئ والوقائع التالية:

 

أولاً، المجتمع اللبناني مجتمع تعدّدي، ولا يكفي ان يعكس النظام السياسي تعددية هذا المجتمع على مستوى الرئاسات والنيابة والوزارة وغيرها، إنما المطلوب بالقدر نفسه الذي تلتقي فيه الطوائف داخل الدولة، ان تلتقي حول سياسات البلد الداخلية والخارجية، بدءاً من انّ لبنان ليس جزءاً من محور ومحاور، إنما دولة قائمة بذاتها لا أولوية لها خارج أولوية شعبها، وصولاً إلى انّ قرار الدفاع عن لبنان هو ملك الدولة وحدها، وما بينهما الإقلاع عن اي محاولة لضرب التعددية عن طريق الأمر الواقع او من خلال الكلام عن إلغاء الطائفية.

ثانياً، التجربة الممتدة منذ الاستقلال في العام 1943، تؤكّد انّ النظام المركزي في الجمهوريتين الأولى والثانية لم ينجح بدليل سقوط الأول بالضربة القاضية والثاني ولد ميتاً، وبأي منطق أساساً الرهان على إحياء تجربة سقطت منذ خمسة عقود وتواصل سقوطها؟

 

ثالثاً، الحاجز الذي حال دون مرور اتفاق الطائف بين لحظة إقراره والعام 2005 كان النظام السوري، والذي حال دون مروره بعد هذا التاريخ «حزب الله»، فهل باستطاعة من يتمسّك بالطائف إزالة هذا الحاجز، وكيف؟ وهل من يطرح البدائل عن الطائف بإمكانه تحقيقها في ظل الحاجز نفسه، وكيف؟

 

رابعاً، حان الوقت للإقرار بالثلاثية الثابتة الآتية: نزع سلاح «حزب الله» بالقوة غير ممكن؛ الحزب ليس في وارد تسليم سلاحه؛ التعايش مع الحزب تحت سقف دولة مركزية غير ممكن، وأقوى دليل التجربة الفاشلة والكارثية منذ العام 2005 إلى اليوم.

 

خامساً، حان الوقت للإقرار بأنّ ما انطبق على تجربتي خروج منظمة التحرير الفلسطينية والجيش السوري من لبنان يختلف عن «حزب الله» الذي هو ابن هذه البيئة وهذه الأرض، وبما انّ الوصول معه إلى مشروع دولة من شبه المستحيل، فلا خيار سوى بالدولة اللا مركزية.

سادساً، من المستغرب هذا الإصرار على الإنصهار الذي لم ينجح منذ استقلال 43 إلى اليوم، إلاّ إذا كان الهدف من هذا الإصرار فرض إرادة فئة على الفئات الأخرى.

 

سابعاً، حان الوقت، بعد أكثر من مئة عام على لبنان الكبير، لأن تعيش كل جماعة خياراتها ومن دون ان تكبت مشاعرها حرصاً على الجماعة الأخرى، فمن يريد الوحدة مع سوريا لا يجب ان يتأخّر في ربط مناطقه بها، ومن يعتبر انّ السيد الخامنئي رئيسه هو حرّ، ومن يريد ان يقول بلبنان أولاً هذا خياره، خصوصاً انّ ردود فعل اللبنانيين اختلفت جذرياً حتى حدود الانقسام وانهيار الدولة، بدءاً من الرئيس جمال عبد الناصر والقضية الفلسطينية والرئيسين ياسر عرفات وحافظ الأسد، وصولاً إلى الثورة الإسلامية الإيرانية ومشروعها العسكري والعنفي المتمدِّد.

 

ثامناً، أثبتت النصوص الدستورية عقمها وفشلها، بدءاً من ميثاق العام 1943 الذي اهتزّ في العام 1958 وسقط بعد العام 1967، وصولاً إلى «وثيقة الوفاق الوطني» التي بقيت حبراً على ورق، شأنها شأن «إعلان بعبدا» وغيره، وبالتالي ضمانة الأوطان ليست بالنصوص التي تُسقطها النفوس عن سابق تصور وتصميم حيناً، وبشكل عفوي أحياناً، وفي الحالتين، الضمانة للأوطان ليست النصوص التعاقدية، إنما القناعة الثابتة والمشتركة بنهائية لبنان وتعدديته وحرّيته وإدارة الدولة وحدها لشؤون ناسه، ولكن هذه القناعة لم تنوجد يوماً وبشكل فعلي منذ العام 1943، وفي اللحظة التي سمحت فيها الفرصة بالانقضاض على الوضع القائم أُطيح بالدولة التي ما زالت في خبر كان.

 

تاسعاً، هناك من اعتقد انّ لبنان يستعيد وحدته مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وقد خرجت المنظمة والانقسام بقي على حاله، ونفس الفئة تقريباً اعتقدت انّ طريق الوحدة تمرّ من خلال إخراج الجيش السوري لبنان، وقد خرج الجيش السوري واستفحل الانقسام، وهناك من يقول اليوم بأنّ التخلُّص من السلاح الإيراني، ولكن لا نعرف كيف سيتخلّص منه بغير التنظير، يؤدي إلى تطبيق الدستور وإحياء التجربة اللبنانية، ولكن حتى لو افتراضياً انتهى المشروع الإيراني العسكري في المنطقة ولبنان، فإنّ الانقسام سيستمر وسيشهد لبنان فصلاً انقسامياً جديداً.

 

عاشراً، لم يعد يتسِّع الوقت للتجارب بعد تجربة قرن فاشلة، ومن يريد ان يجرِّب فليجرِّب من كيسه وليس من كيس اللبنانيين والبلد، ولكن لا شك انّ العائق الأساس يبقى في الدور الحاجز والمانع لـ»حزب الله» من الانتقال من دولة مركزية يسيطر عليها ويعمل على إلغاء التعددية فيها وصولاً إلى آحادية، إلى دولة لا مركزية تشكّل الضمانة لجميع الطوائف التي تعيش فيها بالطريقة التي تتناسب مع خلفيتها من دون تنازل ولا مسايرة لأحد.

 

وبالمختصر وفي الختام، كل من يراهن على هزيمة «حزب الله» واهم، ومن يراهن على تسوية لقيام وطن ودولة معه واهم، وكل من يراهن على تطبيق الطائف او إقرار صيغة جديدة بالاتفاق مع الحزب واهم. وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه: ما العمل في ظلّ هذه الاستحالات الثلاث؟