لا نقص في الوعود ببناء الدولة منذ الاستقلال. لكن بناء دولة على مستوى “البلد-الرسالة” بدا مهمة مستحيلة. والسبب بنيوي. فالوطن الصغير كان “مغامرة” في الشرق عند تغيير الدول بعد الحرب العالمية الأولى. والدولة المحكومة بأن تكون “تسوية” تحتاج إلى تأكيد وانتقال من طبعة إلى طبعة، وسط صراعات دورية. وفي البدء كان التحايل في لعبة المادة 95 من الدستور: فريق يدعو إلى إلغاء الطائفية السياسية. وفريق يرد بالدعوة إلى العلمانية. الأول يعرف أن إلغاء الطائفية السياسية من دون تجاوز الطائفية يعني أن يتحكم العدد بالتعدد ويهيمن على السلطة. والثاني يعرف أن الطرف الأول يرفض العلمانية والتي لا يريدها هو أصلاً.
اتفاق الطائف رسم مخرجاً من المأزق: مسار متدرج على أعلى المستويات الرسمية لدراسة “الوسائل الآيلة إلى تجاوز الطائفية” ثم إلغاء الطائفية السياسية. لكن الطريق بقي مغلقاً. ولبنان ليس، مع الأسف، على مسار الدولة المدنية. لا بل إن المذهبية باتت أقوى من الطائفية. وهما معاً في الذروة اليوم، في حين أن الدولة في الحضيض. وقمة الخداع هي أن ترفع أحزاب طائفية وحتى دينية شعار الدولة المدنية والدعوة إليها من على منصاتها المتوترة طائفياً ومذهبياً. وليس ما ظهر خلال معركة الحكومة سوى أعلى مراحل التمسك بالمواقع والسياسات التي تخدم ملوك الطوائف والمذاهب.
والتغيير هو الضحية. فالوطن الصغير كان ولا يزال أرض الأحلام الكبيرة والكوابيس الخطيرة والحقائق القاسية. الأحلام تصطدم بصخور الواقع. والكوابيس تتجسد في الواقع. والواقع لا يتغير بتغيّر الأزمنة، ولا يقرأ في الدستور. حتى تجربة المغامرة والتسوية التي قال ميشال شيحا “إن من واجب التقاليد أن تصونها من العنف” فإنها تعرضت لحروب وصراعات لا تنتهي منذ الاستقلال حتى اليوم.
كان مهدي عامل يقول إن “الشكل الطائفي الذي هو أساسي لوجود الدولة اللبنانية كدولة بورجوازية هو العائق الأساسي دون أن تكون هذه الدولة دولة بورجوازية، ولا سبيل للخروج من التناقض المأزقي إلا بالانتقال إلى بنية أخرى”. والانتقال إلى بنية أخرى كان ولا يزال من الأحلام الكبيرة التي تصطدم بصخور الواقع. كذلك المسار نحو الدولة المدنية. لكن الممكن، هو استعادة الطموح الذي حاولت تجسيده النخبة في ستينات القرن الماضي مع الانطلاق في بناء مؤسسات الدولة وازدهار الحركة الأدبية والثقافية والفنية من رسم وموسيقى وغناء ومسرح. إنه العمل على دولة أرقى من الطوائف. دولة تتمثل فيها الطوائف والتيارات والمناطق بأفضل من فيها، لا بمن هم من كعب البرميل يأتي بهم الزعماء لخدمتهم بناء على الولاء لا الكفاءة، وإدارة الفساد والصفقات لا النزاهة.
ذلك أن مهمة الوزير الذي يمثل طائفة وحزباً ليست العمل في السلطة لخدمة طائفته وحزبه بل العمل العام في السلطة لمصلحة البلد بما فيه حزبه وطائفته. وليس هذا ما نراه في مرحلة الانحطاط وانحلال الدولة. ولا مهرب من المحاصصة في الأنظمة الديمقراطية حين تكون الحكومات إئتلافية. لكن المحاصصة في البلدان الراقية تبدأ من البحث في البرامج والتفاهم بين أهل الحصص على العمل بموجبها، وليس من التركيز على الأسماء وتجاهل البرامج.
مجرد أحلام؟ ربما. لكن “الأمل هو حلم مستيقظ”، كما قال أرسطو.