IMLebanon

السبيل للعودة: «اتفاق الطائف» والــشرعية العربية والدولية

 

 

فقرات أساسية في “اتفاق الطائف”:
ـ “بما أنّه تمّ الاتفاق بين الأطراف اللبنانية على قيام الدولة القوية القادرة المبنية على أساس الوفاق الوطني، تقوم حكومة الوفاق الوطني بوضع خطة أمنية مفصّلة مدتها سنة، هدفها بسط سلطة الدولة اللبنانية تدريجيًا على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية، وتتسمّ خطوطها العريضة بالآتي:

الإعلان عن حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال 6 أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية.

إستعادة سلطة الدولة حتى الحدود اللبنانية المعترف بها دوليًا تتطلب الآتي:

أ- العمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الإسرائيلي إزالة شاملة.

ب- التمسّك باتفاقية الهدنة الموقّعة في 23 مارس/آذار 1949م.

ج- إتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب اللبناني، لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولإتاحة الفرصة لعودة الأمن والاستقرار إلى منطقة الحدود”.

 

لست أدري لماذا أعود تلقائيًا إلى العبقري “توماس هوبس”، عندما يكون الحديث عن طبيعة الإنسان. فقد تصور هوبس حال الإنسان في الطبيعة، حيث لا ضابط تعاقديًا، وحيث تنعدم كل القيود الاجتماعية. في تلك الحال، تكون هناك ندرة للموارد الضرورية، فتكون النتيجة الحتمية، أن يتحول التنافس نزاعًا عنيفًا من أجل البقاء والحفاظ على الذات. يقول في كتاب “الطاغوت”: “في عالم تشح فيه الموارد الأساسية، حيث يكافح البشر من أجل العثور على الغذاء والماء في سبيل البقاء على قيد الحياة، فإنّه يمكن، في الواقع العقلاني، اللجوء إلى قتل أشخاص آخرين قبل أن يحاولوا هم قتلك”.

 

نتيجة لذلك، سيبرز عامل انعدام الثقة بين الناس، وفي نهاية المطاف تصبح الحرب حالة دائمة.

 

في حال الطبيعة “كل رجل هو عدو لكل رجل. حياة الإنسان، موحشة، مقرفة، متوحشة وقصيرة”. ولكن حتى في ظلّ قوانين الطبيعة، يسعى البشر إلى البحث عن السلام، للأسباب نفسها في الحفاظ على الذات، في وضع توازن الرعب القائم بين الجميع. من هنا، تنشأ مجموعة جديدة من القيم الأخلاقية القائمة على الامتنان والتواضع والرحمة، كوسيلة بديلة للحفاظ على الذات، بدل القتل والنزاع الدائمين.

 

يعتقد هوبس أنّ قوانين الطبيعة (وأخلاقها الشرسة) أبدية وابتدائية، لكن يمكن للبشر تجاهلها، في سياق اجتماعي آمن. لكن، عندما تكون المصلحة الذاتية مهدّدة والحياة غير آمنة، فإنّ الالتزام بالواجبات الأخلاقية سيكون مسألة ضد الطبيعة. المصلحة الذاتية لها الأولوية، والالتزامات الأخلاقية لا تأتي إلّا عندما يخدم التعاون مع الآخرين المصلحة الذاتية. على رغم من أنّ بعض البشر، قد يتصرفون في حال الطبيعة بالتعبير عن الوداعة والرحمة والكرم، لكن هذا الأمر سيكون حتمًا غير طبيعي. يبقي قانون الطبيعة مستترًا تحت بُرقُع واهٍ في ظلّ توازن الرعب، لكن البُرقُع يزول بسرعة متى زال هذا التوازن، وتمكن المبادر إلى الاعتداء، من حساب الموازنة بين الربح والخسارة، فكانت لمصلحته. الإشكال الذي تكرّر في تجارب الشعوب هو أنّ التقديرات الخاطئة ممكنة، حين يظن أطراف اللعبة أنّهم قادرون على الربح، فيُدخلون البشرية في مغامرات عنيفة أدّت إلى محرقة شاملة للبشر والحجر.

 

توازن الرعب العالمي اليوم قائم فقط بين الدول أو المنظومات التي تمتلك القدرة على إفناء الآخر، أو إفناء البشرية، على طريق إفناء الآخر. من هنا، فإنّ المنظومات والمجتمعات والدول التي تشكّل ثلثي العالم، تبقى عرضة للأخذ والردّ، ومساحات للنزاعات المستترة، بين مالكي الأسلحة المفنية. حرب أوكرانيا اليوم هي تعبير واضح عمّا سبق. فبمجرد أنّ روسيا افترضت أنّ جارتها ستشكّل تهديدًا محتملًا لها في مستقبل قريب، قامت بعملية استباقية، قبل أن تصبح أوكرانيا جزءًا من معادلة توازن الرعب، لو دخلت حلف “الناتو”. صحيح أنّ حسابات بوتين قد لا تكون بالنتيجة دقيقة، لكن تلكوء الولايات المتحدة في قبول أوكرانيا في الحلف النووي، شجع بوتين على الإقدام، معتبرًا أنّ الغرب لن يردّ، إلّا بما يكفي لضمان أنّ توازن الرعب لن يتمّ تجاوزه. كما أنّ اعتماد بوتين على عدم قدرة هذا الغرب على الدخول في حرب كلاسيكية، خوفًا من سقوط جنود له في المعارك، تُحسب في موازين الانتخابات، أعطى القيصر جرعة ثقة إضافية بأنّ حساباته في الربح العسكري شبه مضمونة.

 

لكن، وبعد نصف سنة من انطلاقة تلك الحرب، يبدو اليوم أنّ العالم يسير على كف عفريت، بدأ يتجول ليصل حتى إلى بحر الصين، الذي ظنناه هادئًا، في ظل المصالح المتبادلة القائمة على مدى بضعة عقود، اي منذ تحولت الصين، الشيوعية، إلى الدولة الأكثر توحشًا في عالم الاقتصاد الرأسمالي.

 

ما يهمّنا اليوم، بعد هذه “الركمجة” في عالم فلسفة السياسة، هو انعكاس الأمر على مواطن ساكن في زاوية ما في لبنان، ينتظر الفرج بحل سحري يهبط من عالم الأساطير، أو بمركب خشبي يحمله فوق الأمواج إلى شط نجاة، حتى وهو يشاهد الغواصة الآتية اليوم لسحب رفاة السابقين إلى المراكب. فما يدفع المرء إلى ركوب احتمال الموت هو عادة ما هو أسوأ من الموت.

 

لا يبدو، من خلال النزاعات القائمة، ولا حتى من خلال الاتفاقات المحتملة، والمؤقتة حتمًا، أنّ الفرج السحري آتٍ. فقد اعتدنا، على مدى وجودنا، وربما وجود جدودنا، أنّ النزاع إن حصل، سيكون على حسابنا، والحلول إن أتت، فتكون أيضًا على حسابنا. وفي الحالتين، لسنا نحن مجرد ضحايا جانبية بريئة، بل فقد أثبتنا مرارًا وتكرارًا أننا التربة الخصبة المستدعية، لا بل المستجدية، ليصبح بشرنا وحجرنا ضحية. و “من له أذنان سامعتان فليسمع” و”من كان بيته من زجاج…”. فلو راجعنا تاريخنا القريب والمتوسط، نرى في وضوح أنّ عالم توماس هوبس، أي إنسان الطبيعة التي تسبق المجتمع، هي القائمة عندنا، حتى وإن تبجحنا بكوننا حملنا الحرف إلى العالم. الخوف من الآخر، والخنجر المسلول أو المستتر، واستباق العدوان بعدوان، هي ما جعلت لبنان وما زالت تجعله كمركب خشبي متهالك، ينوء بحمل أضعاف تحمّله، في خضم بحر هائج. وما نفع الضحايا بعدها، لو أتت كل غواصات العالم لانتشالها؟

 

لماذا هذا الكلام الآن؟ لأنّه، على رغم من كل هذا الواقع، ما زال في الإمكان العودة بالمركب إلى البر، بأقل خسائر ممكنة. إنّ الطريق هو العودة إلى ميثاق العيش المشترك، والالتزام بالدستور ووضع قرار الأمن الوطني بكامله في يد الدولة، لتصبح دولة. ومن ثم الالتزام بمنظومة المصلحة العربية، أي بما هو نافع، بدل الخطابات الفارغة حول النصر الماورائي والتمسّك بالقرارات الدولية، وخصوصًا القرار 1559 الذي يشكّل الترجمة الأممية للدستور اللبناني.

 

إنّ قرار الذهاب اليوم إلى طروحات اعتباطية نابعة من عمق اليأس، كالفيدرالية أو الانفصال أو مؤتمر تأسيسي، كلها ستُدخل البلاد في البحر من جديد، على قطع خشب مخلّعة من سفينة غارقة أصلًا. فالحل هو بالتمسّك بما هو قائم لعلاج ما هو شاذ. أي العودة إلى الدستور والشرعية، بدل إلقاء النفس في المجهول. علينا الاقتناع بضرورة الخروج من عالم الطبيعة إلى العقد الاجتماعي الذي فُصّل بالأساس على قياس هواجسنا، أي “اتفاق الطائف”.