أياً كان الرأي في «اتفاق الطائف» نصاً أو تطبيقاً بعد ربع قرن، فإن الاتجاه الغالب لدى القوى السياسية هو للابتعاد عنه وليس الالتزام به. نضجت صيغة الطائف في حوار وطني لبناني مديد وحار قبل أن تتحوّل إلى تسوية خارجية كذلك. لكن عند إقرار الطائف ألبسنا الجمهورية نصاً أقرب إلى أفكار السبعينيات الإصلاحية فيما كان الواقع اللبناني يتراجع عن هذا الاتجاه تحت وطأة «التعريب» الذي أطاح التجربة اللبنانية.
ذات يوم ليس ببعيد فكّر لبنانيون من مواقع مختلفة بأن يجدوا صيغة لتكامل أو لشكل من التعاون مع سوريا يؤدي إلى قيام دولتين مدنيتين في مواجهة خطر صعود الإسلام السياسي السلفي الجهادي، خاصة في العراق. فإذا بسوريا تنفجر بحرب أول ما أسقطته ثقافتها القومية والمدنية وتطور مجتمعها المدني. وبذلك تساوت المنطقة كلها في الوقوف بالعراء دون وجود نقطة ارتكاز نحو مجتمع سياسي أفضل. وحين خرجت فئات من الشباب اللبناني بعدوى الثورات العربية تطالب «بإسقاط النظام الطائفي» لم نكن قادرين على إقناعها بالدفاع عن الدستور وتطبيقه لاعتقادها أن الموجة هي لمصلحة التغيير إلى أمام في العالم العربي. وإذا بنا نشهد سخرية سياسية ولامبالاة من القوى الطائفية التي أدركت أنها الطرف المسيطر في المعادلة. فالشغل الشاغل لدى الأطراف السياسية اللبنانية هو إرساء معادلات لاستقبال مرحلة إعادة تكوين النظام الإقليمي وليس بحثاً عن نظام سياسي هدفه الأساسي بناء تجربة لبنانية مستقلة.
يبدو أن لا حوامل للإصلاح السياسي في لبنان، وأن البحث عن حلول لمشكلاته مرهون للمناخ الإقليمي الأبعد من الدائرة العربية. لذا أي جهد الآن يمكن أن يتجه إلى بلورة تشخيص المشكلات العربية والبحث عن حلول لها إزاء قضايا تشق هذه المنطقة على أساس معطيات وبين قوى لم تكن قائمة في القرن الماضي أو ذات تأثير حاسم على مجرى السياسة العربية.
الفورة النفطية والاقتصاديات الريعية أحدثت توازناً جديداً كاسحاً في العالم العربي لمصلحة المعسكر الخليجي والنفطي عموماً، وجلبت معه تبديلاً عميقاً في الثقافة السياسية ما زالت تتفاعل حتى الآن.
قادنا هذا المتغيّر إلى «التسليم» بشكل الصراعات ولغتها وانخرطنا فيها واقعية أو تقيّة أو مسايرة أو ضعفاً أو وهماً. لم يكن ذلك خارج السياق العالمي لهجوم «النيوليبرالية» وإنجازاتها السياسية وكأننا بذلك في موجة واحدة مع العصر. فإذا كان لبنان اليوم قد أصبح تفصيلاً صغيراً في المشهد الإقليمي أمام «جبهات دولية» وتحالفات لإعادة تكوين هذا المشهد، فإن الجهد الحقيقي يمكن أن يبذل إسهاماً في طرح القضايا التي لا يمكن أن يطويها هذا الصراع السياسي الدولي ويؤجل إلى ما لا نهاية وضعها على جدول الأعمال. الإفلاس لا يطاول الطبقة السياسية الحاكمة وحدها وقد صار عربي الهوية أيضاً، بل النخب السياسية خارج دائرة السلطة حيث لم تستطع أن تطرح المهمات الفعلية وتقوم بإنشاء قوى ضاغطة على المسار الانحداري العربي. ولعل النموذج اللبناني معبّر عن كيف انحلّت صيغة الجبهات السياسية التي تسعى إلى الإصلاح وكيف تغلّبت الروح العصبية الحزبية والشخصانية على ما عداها من اعتبارات. ورغم وجود كل المروحة الواسعة من القضايا المشتركة بين اللبنانيين والتي يفترض أن توحدهم في وجه الفوضى السلطوية العبثية فلا نجد إطاراً واحداً قادراً على تشكيل نواة جذب لهذه الهموم والاهتمامات المشتركة.
ربع قرن من حياة اللبنانيين على «الطائف» كان يمكن أن ينجزوا خلالها الكثير، فالحساب هنا ليس مع «الطائف» بل مع كل الذين جعلوه وليداً منبوذاً لمصالح عابرة.