يستحق «منتدى الطائف» الذي أُدرج ضمن جدول النشاطات المعدّة هذا العام لإحياء الذكرى الـرابعة عشر لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري، التوقف عنده للتأمل وأخذ العبر، ليس لأنّه أضاء على الإنجاز السياسي الذي أوقف الحرب الأهليةوالذي كان للرئيس الشهيد دورٌ كبيرٌ في مسار إنتاجه وتهيئة ظروف نجاحه،بل لأنّه أعاد تركيب المشهد السياسي إنطلاقاً من منطق التسوية الذي أعاد لبنان إلى الخارطة السياسية.التعاقب الزمني للمنتدى بعد تشكيل الحكومة وعشية ذكرى الإستشهاد ومشاركة المملكة العربية السعودية أسدل الستار على الأعراف والإجتهادات الخارجة عن الدستور التي حاول الكثير من المغالين والمغامرين من مراهقي السياسة تكريسها خلال مخاض تشكيل الحكومة.
تسوية الطائف هي بالتأكيد التسوية السياسية الحقيقية الوحيدة التي عرفها لبنان منذ انتهاء عهد الإمارة، إذ لم تكرس أياً من ترتيبات الأمر الواقع التي عرفها جبل لبنان أو لبنان الكيان في عهد الإنتداب أو خلال حقبة الجمهورية الأولى، سوى منطق الغلبة المبني على الإستقواء المتبادل بين الطوائف من الداخل والنفوذ الإقليمي والدولي. هذا المنطق لم يؤدِ سوى إلى تعطيل الحياة السياسية وتفجير الكيان، إذ لم تختلف الجمهورية الأولى التي جمع رئيسها صلاحيات الوالي العثماني والمفوض السامي عن نظام القائمقاميتين ونظام المتصرفية لجهة التجييش والتأسيس لجولة عنف جديدة.
تسوية الطائف أثبتت قدرتها على الصمود في وجه المتغيّرات الإقليمية وتبدل ميزان القوى برغم محاولات تعطيلها من الداخل والخارج. لقد تمكنت الوصاية السورية بالتفويض المعطى لها بعد المشاركة في حرب الخليج من تعطيل الدستور،ولكنها لم تتمكن من إرساء تسوية قابلة للحياة وتحظى بالإعتراف الدولي. كما أنّ المكونات السياسية والطائفية اللبنانية الذين ساورتهم بعض الطموحات لتغيير المعادلة أدركوا أن ضوابط التسوية التي أُقرت في متن الطائف هي أقوى من أن يعطّلها تغيير آني في ميزان القوى، أو إصرار فريق على خوض مغامرات التأسيس من جديد.
تكررت محاولات الإنقضاض على الطائف منذ اغتيال الرئيس الشهيد، تسوية الدوحة وما تلاها، إستعمال الشارع،وحروب طواحين الهواء في سوريا والإنتصارات المزعومة على الإرهاب المتنقل بالباصات إلى حيث تريد العقول المخابراتية إفتعال حروب جديدة، لم تفضِ إلى أي تبديل.
المؤسسات الدستورية التي حدّدت تسوية الطائف أدوارها وحدود صلاحياتها، لا تزال تتعرض لمحاولات تجاوزها من الطامحين لاستحداث مراكز قوى داخل السلطة التنفيذية، تحت عنوان الإنتساب للكتلة الأكثر عدداً أو الحق للوزير بإبداء الرأي بما لم يقرره مجلس الوزراء، الذي أناط به الدستور وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها(المادة 65 من الدستور). يدرك الوزراء أنّ الخوض في شؤون اقليمية كقضية اللاجئين السوريين وعودة سوريا إلى الجامعة العربية وكل ما يمت إلى الشأن السوري أو اليمني أو العراقي إنما يقع ضمن إطار تسويات دولية وصراع مصالح كبرى لا يمكن أن تؤثر بها إطلالة إعلامية من هنا أو لقاء ثنائي مع وزير من هناك، وإنّ جلّ ما يمكن أن تعبّر عنه هذه الإجتهادات هو تشتيت الجهد وازدراء الخارج بالدولة اللبنانية.
لا تتطلب الواقعية السياسية سوى التمعن في مجريات مؤتمر ميونيخ. تصريحات الوزير محمد جواد ظريف المتوترة على وقع المواقف الأوروبية والأميركية من إيران، التي هاجمها بشدة المرشد الأعلى للثورة، وعلى وقع الإتهامات التي وجهتها إيران لكلّ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وباكستان بعد إنفجار هامدان،كافيّة لإدراك حجم المأزق الذي تعيشه إيران. ولا تتطلب الواقعية السياسية سوى التمعّن في خطاب الرئيس بشار الأسد الاخير لتلمّس الغموض الذي يحيط بمصير سوريا التي يُلقي رئيسها اللوم على كل العالم إلا على نفسه.
لا تزال تسوية الطائف تنتظر أن يقتنع أصحاب المغامرات الطائفية والسياسية ومعتلي المنابر بعقم طموحاتهم التي لا تعدو كونها صرخة في وادٍ، فينكفئوا نحو الداخل ويلتزموا تطبيق الدستور.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات