يكاد يتفق الجميع في البلاد على أنّ «اتفاق الطائف» شطب الطائفية في النصوص، وتحديداً عن الهوية اللبنانية، لكنّه ثبّتها في النفوس. وظنّنا طويلاً أنّها لا تزال متجذّرة في نفوس اللبنانيين الذين لا يلبثون يتناحرون أو يتشابكون (وهذا الأمر حصل مرّات عدّة بعد الاتفاق المذكور) على أساس طائفي مذهبي مع الأسف بين السنّة والشيعة، وأحداث 7 أيّار 2008، واشتباكات طرابلس بين جبل محسن وباب التبّانة التي دامت لسنوات، لا تزال ماثلة حتى الآن في أذهان الجميع. غير أنّ تجذّر الطائفية يظهر أكثر فأكثر في نفوس السياسيين وأدائهم السياسي، على ما لفتت أوساط ديبلوماسية مراقبة، وقد تجلّى ذلك في تشكيل حكومات ما بعد الإتفاق، وكلّ ما يتبعها.
ويظهر هذا الأمر بشدّة، على ما أضافت الاوساط، في الفترة الحالية التي تشهد شغوراً رئاسياً منذ 25 أيار من العام الماضي، فبدلاً من أن تسعى الطوائف المنقسمة على بعضها البعض جاهدة لسدّ هذا الشغور، نجد أنّ كلّ منها يتمسّك بزعيمه وطائفته ومواقفه. أمّا التسوية التي حُكي عنها أخيراً فيما يتعلّق بترشيح رئيس تيّار المردة النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية كون الإتفاق على انتخاب مرشح 14 آذار الدكتور سمير جعجع لم يحصل على مدى الجلسات الـ 33 الماضية، ولا على انتخاب رئيس تكتّل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون الذي يُمثّل في البرلمان وفي الشارع أكبر كتلة وشريحة من المسيحيين، فنراها تدخل، مع الأسف، في حسابات الطوائف أكثر منها في حسابات فريقي النزاع أي 8 و14 آذار.
فالقادة المسيحيون الذين يُتهمون بأنّ «كلّ منهم يريد أن يكون أنا أو لا أحد»، تجد الأوساط نفسها أن تنافسهم هذا طبيعي ولكن يجب استكماله لكي يفوز الأفضل بينهم. وهم بالتالي لا يتنافسون طائفياً فيما بينهم، إنّما بينهم وبين الآخرين، فيرفضون، على سبيل المثال، أن يُسمّي السنّة أو الشيعة أو الدروز الرئيس المسيحي، في الوقت الذي لا يزال فيه الدستور طائفياً، يتبع مبدأ 6 و6 مكرّر. فالمشكلة إذاً اليوم تكمن في «اتفاق الطائف» الذي قسّم وحدّد ووزّع الصلاحيات والمراتب على أساس طائفي، ونأتي اليوم لنطلب من الجميع التخلّي عن الطائفية وانتخاب الرئيس، أو نلقي المسؤولية على المسيحيين من جهة، أو السنّة من جهة أخرى الخ…
أمّا منطق الأمور، وبعيداً عن الدستور القائم اليوم، فيُظهر أنّ كلّ طائفة تودّ أن «تنتخب» زعيمها الأول، وهذا الأمر يحصل لدى الطوائف كافة، باستثناء الطائفة المسيحية. واشارت الى أنّه لو كان السيّد حسن نصرالله مرشّحاً اليوم لرئاسة مجلس النوّاب الى جانب الرئيس نبيه برّي، لاختلف الشيعة فيما بينهم. ولو كان رئيس تيّار المستقبل النائب سعد الحريري، ورئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة أو سواهما مرشحين لرئاسة مجلس الوزراء لاختلف السنّة فيما بينهم. ما يعني أنّ الخلاف طائفي عندما يكون مع الشركاء في الوطن، وتضيق دائرته عندما يدخل ضمن الطائفة الواحدة، ليصبح تنافساً حول من هو الأقوى بينهم، أو في الطائفة نفسها. ولكن أين المصلحة الوطنية في كلّ ذلك؟
تجيب الأوساط نفسها أنّ مصلحة الوطن والمواطن تضيع في ظلّ تدخّل كلّ الطوائف في دائرة الطائفة المسيحية، في الوقت الذي لا يُطلب رأيها في أي استحقاق آخر، ما يجعلها وكأنّها «غير شريكة» في هذا الوطن الذي قام على أكتاف سياسييها الكبار منذ مئات السنين، وهذا ما يُوسّع دائرة الخلاف داخل هذه الطائفة. فالعماد عون اليوم، على ما أكّدت الأوساط نفسها، لا يُعارض انتخاب النائب فرنجية أو الدكتور جعجع أو الرئيس الأسبق أمين الجميّل لأسباب شخصية، ولأنّه يعتمد على مبدأ «أنا أو لا أحد»، بل لأنّه منطقياً يريد أن يتمثّل اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً برئيس مسيحي هو الأقوى، لكي لا يُصار بعد الآن الى تهميش هذا المنصب الأول في البلاد، على غرار ما حصل خلال عهود سابقة تلت «اتفاق الطائف».
علماً أنّ هذا الإتفاق هو الذي «همّش»، إذا صحّ القول، منصب رئيس الجمورية عندما أخذ صلاحيات الرئيس الماروني ليُسندها الى مجلس الوزراء مجتمعاً، وقد اختزلها بعض الوزراء السنّة بشخصهم في مراحل عدّة مثل الرئيس رفيق الحريري، أو الرئيس فؤاد السنيورة، أي أنّ هذه الصلاحيات تحوّلت من المسيحيين الى السنّة الذين قاموا بالاستفادة ممّا جاء في الدستور واجتهدوا فيه على ما يحلو لهم.
ولوضع حدّ لمثل هذه الأمور، فإنّ المسيحيين أنفسهم، لا يمكنهم أن يقبلوا بعد الآن برئيس لا يُمثّل سوى في منطقة محدّدة، أو برئيس ظاهره توافقي، وباطنه متحيّز، ولا برئيس لا يرضى عنه كلّ المسيحيين أولاً ثمّ غالبية اللبنانيين ثانياً. والفرصة، بحسب الأوساط نفسها، متاحة اليوم لكي يستعيد المسيحيون قوّتهم في إيصال الأقوى بينهم الى قصر بعبدا، في حال كانوا فعلاً يريدون مصلحة الوطن ويضعونها فوق كلّ اعتبار. أمّا تضييع الفرصة، بعد أن طال وقت الشغور، فيعني العودة الى نقطة الصفر أي الى الإرتهان، والتهميش وتمرير المراسيم والمشاريع والصفقات من دون موافقة رئيس الجمهورية.
وتؤكّد بأنّه من شأن وصول الرئيس الأقوى بين المسيحيين أن يعيد لهؤلاء حقوقهم، أولاً عن طريق وصوله الى قصر بعبدا، وثانياً عن طريق «تعديل» اتفاق الطائف لجهة استرداد صلاحيات رئاسة الجمهورية، الأمر الذي يمنع حصول شغور رئاسي على غرار الذي نشهده الآن منذ سنة وسبعة أشهر. لكنّ هذا الكلام لا يعني بأنّ القادة الثلاثة الباقين لا يصلحون لهذ المنصب، على الإطلاق، على ما أضافت، إنّما وصول الأقوى بينهم من شأنه تعزيز المنصب، ما يجعل الطوائف الأخرى لا تستهين بعد اليوم لا بالمنصب ولا بصاحبه، ولا بطائفته، في حال استمرّ النظام طائفياً لمرحلة مستقبلية بعد.
وفيما عدا ذلك، يبقى تسويات وهمية، أو «طبخات غير مستوية»، يتمّ الإعلان عنها قبل أن تصل الى خواتيمها السعيدة، وفي ذلك خطأ كبير، لأنّه «يجعل الطبّاخون يكثرون وتشوشط عندها الطبخة».