Site icon IMLebanon

«الطائف» مُحصَّن والواقع الإقليمي مُعقَّد

«هستيريا» 2016 كما توقّعها خبير معنيّ بالملفين اللبناني والسوري لا تزال في بدايتها، خصوصاً في سوريا.

فالمعارك الدائرة بعنف والمتغيرات التي تطاول خريطة مناطق النفوذ لم تصل الى ذروتها بعد والمتوقعة بعد اكتمال الحصار على مدينة حلب ثاني أكبر المدن السورية، والتي عُرفت على الدوام بالعاصمة الاقتصادية لسوريا.

والذروة ستترافق مع بدء اقتحام بعض الأحياء والمناطق التي تسيطر عليها الفصائل والمجموعات المناهضة للرئيس بشار الاسد ومحاصرة المسلحين في بقعة ضيّقة بحيث تُشطب حلب عن معادلة المعارضة.

قبل ذلك تنتظر الميدان السوري أعمال حربية عدة، فقريباً سينطلق الجيش السوري ومعه الائتلاف المؤيّد له في اتجاه مدينة تدمُر، ومن ثم «جسر الشغور» الذي أحدثَ سقوطه الأثر الكبير ودفعَ بطهران الى إقناع موسكو باختصار المسافة الزمنية والدخول مباشرة في النزاع العسكري الحاصل.

ولا حاجة للاجتهاد بأنّ الولايات المتحدة الاميركية متفاهمة مع القيادة الروسية على المسار العسكري في سوريا والتوازنات الجديدة التي ستتمخّض. كان ذلك واضحاً من خلال العصا التي رفعها وزير الخارجية الاميركي جون كيري في وجه الفصائل المعارضة، والتي دعيت الى مؤتمر جنيف على رغم من أنّ النتيجة كانت الفشل وهو ما لم يفاجئ أحداً.

بالتأكيد للديبلوماسية الاميركية كثير من الاعذار والذرائع التي تتلطّى خلفها أمام الدول الداعمة لمختلف اطياف المعارضة، ولا سيما منها السعودية وتركيا وقطر، والأهمّ أنّ في يدها كثيراً من اوراق الضغط المتصلة بمصالح هذه الدول لدَوزنة الشروط الجديدة للخريطة السورية.

مع تركيا، هناك الاكراد وخطرهم على تركيا التي كانت ولا تزال وستبقى تعيش هاجسهم. ومع دول الخليج، هناك «داعش» و«النصرة» واخواتها واليمن وأمن الخليج والحصص في مستقبل التركيبة السورية.

إذاً، خريطة المعارك الحربية الدائرة في سوريا والمتجهة الى تصعيد هستيري تهدف الى استكمال تنظيف ما باتَ يعرف بـ»سوريا المفيدة» وتحصينه وترتيبه، لكن هذا ليس كل شيء.

ففي موازاة ذلك وخلال الاسابيع والاشهر المقبلة، وضعت خطة عسكرية لإعادة إمساك النظام السوري بكلّ المعابر البريّة، وقريباً سيعمل الجيش السوري بمساعدة مباشرة وفاعلة من سلاح الجو الروسي على الامساك بكل المعابر الحدودية الشمالية التي تشكل نقاط تواصل ما بين الاراضي التركية والسورية.

ومن الطبيعي أن يساعد ذلك النظام في معركة استرجاع حلب، لكنه سيكون عاملاً حاسماً في عزل التأثير التركي عن الداخل السوري بدرجة كبيرة.

وفي مرحلة لاحقة سيتولى الجيش العراقي بمساعدة أميركية الإمساك بالمعابر البريّة التي يستفيد منها «داعش»، فيما سيتولى الجيش السوري بمساندة ايرانية الإمساك بالمعابر البريّة مع الاردن.

واذا كان واضحاً عدم وجود اعتراض اميركي على خطة إقفال الحدود والمعابر السورية، لكنه من «الصادم» ربما ان تسمع ديبلوماسياً اميركياً مطّلعاً ومعنياً بشؤون الشرق الاوسط يقول: «حلب باتت تعتبر ساقطة عسكرياً».

لا مجال للشك او للتأويل بأنّ واقعاً جديداً يجري تكريسه، خصوصاً في العراق وسوريا بمباركة اميركية، وتحديداً بعد الاتفاق النووي التاريخي بين واشنطن وطهران. وهل نجد بعد من يصدّق أن لا وجود لملحقات سريّة ترعى تنظيم العلاقة الاميركية – الإيرانية في الشرق الاوسط؟

وتتوخى واشنطن أن تؤدي النتائج العسكرية المنتظرة الى خلق توازنات ميدانية جديدة تمنح الأرجحية للنظام ولكن من دون إلغاء حضور مكوّنات المعارضة المقبولة، على أن تترجم لاحقاً من خلال معادلة سياسية حول طاولة المفاوضات.

من هنا كان لا بد لـ«جنيف 3» أن يفشل ولو أنه شكّل عملياً انطلاقة صعبة جداً لمشوار التسوية الطويلة في سوريا. ومن هنا أيضاً تُفهم الحماسة السعودية لإرسال قوات الى سوريا لمحاربة «داعش» بالتفاهم مع تركيا بما يسمح لها ضمناً عدم الإخلال بالتوازنات الميدانية الحالية.

ومن هنا أيضاً يفهم الجواب السوري، كما الجواب الايراني، الرافض هذه الفكرة ومن خلال «التهديد» بعودة هؤلاء الجنود في صناديق خشبية، ذلك أنّ التفاهم مع واشنطن قد استبقَ كل هذه التطورات، وما يجري الآن ترجمة لتفاهمات سابقة.

وسيكون للبنان حصة من الهستيريا المنتظرة. فـ«الجيب» القائم في جرود عرسال حيث يَتناتَش «داعش» و«النصرة» رقعة السيطرة، موضوع على برنامج العمليات العسكرية. وحالما ستسمح ظروف الطبيعة ستبدأ عملية السيطرة على كامل الجرود، وهي الخطة التي كان مقرّراً تنفيذها الصيف الماضي، لكنّ التطورات السورية وسقوط تَدمُر وجسر الشغور فَرضا تأجيلها سنة كاملة.

ولأنّ البرنامج العسكري والحربي حافِل، هناك من يعتقد أن لا أمل في حل الأزمة الخانقة التي يعيشها لبنان، وبالتالي وصول رئيس جديد للجمهورية، إلّا بعد تثبيت التوازنات الميدانية الجديدة في سوريا وجرود عرسال.

لكنّ الدوائر الديبلوماسية الغربية المتابعة للتفاصيل اللبنانية، ولا سيما منها الدوائر الفرنسية والاميركية، لم تعد قلقة حيال هاجس الخوف من تدمير المؤسسات اللبنانية لـ«بناء» دستور جديد على أنقاضها. هي باتت واثقة بأنّ «اتفاق الطائف» أضحى محصّناً، وأنّ الخطاب الأخير للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله هو بمثابة الالتزام والتعهد العلني والواضح والمباشر بذلك.

ويتحدث خبراء اميركيون عن «الميزات» التي يتمتع بها السلوك السياسي للسيد نصرالله، ويروي هؤلاء أنّ من أهمّ ميّزات الرئيس الراحل حافظ الاسد هو تطبيقه الكامل لِما كان يلتزمه. وبالتالي، كان يتحمّل أعباء التزاماته من دون ان «يُلبّك» الاميركيين. هكذا التزم الهدوء في الجولان وحافظ على الخطوط الحمر المرسومة في لبنان. طبعاً، كان التفاوض معه صعباً، لكنه كان يحترم التزاماته كاملة.

ومع السيّد نصرالله، هناك شيء مُشابه، فهو شاكسَ كثيراً في الجنوب ولكن بعد صدور القرارات الدولية والتفاهم الفرنسي معه حول سلامة قوات الطوارئ العاملة في الجنوب حصل التزام كامل، لا بل تعاون في هذا السبيل، وكذلك على مستوى الاستقرار الأمني الداخلي واستقرار الحكومة.

ولذلك، فإنّ هذه الاوساط تقرأ في كلام نصرالله نقاطاً مطمئنة، خصوصاً لجهة وضع فكرة تغيير النظام اللبناني جانباً والتزام دستور «الطائف» وتأكيد التفاهم مع الشريك الآخر على الخيارات الكبرى قبل الاستحقاق الرئاسي.

طبعاً لا يعني ذلك أبداً نسج علاقة «تحالفية» بين واشنطن و»حزب الله»، فأوراق الضغط الاميركية على الحزب لا تزال موجودة وأبرزها على الاطلاق ورقة النازحين السوريين المُرعبة في لبنان. لكن كل ذلك يشكّل قاعدة جيدة لتواصِل مباشر بين الطرفين حاصل حتماً، وربما لم يعد بعيداً.

فالظروف تنضج ولو أنّ هناك في الاوساط الديبلوماسية مَن لم يفهم بعد فعلياً لماذا لم يمدّ بعد «حزب الله» يد المساعدة في إنجاز الاستحقاق الرئاسي؟

وفي هذا الاطار جددت الاوساط الديبلوماسية الاميركية تأكيدها أنها غير مهتمة باختيار اسم الرئيس، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الاستحقاقات الرئاسية، لأنّ واشنطن تريد فقط إتمام هذا الاستحقاق بغضّ النظر عن اسم الرئيس المقبل.

هذا الواقع ربما دفعَ برئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون الى التمسّك الكامل بترشيحه، وبَدا له بعد خطوة معراب أنه اقترب كثيراً من قصر بعبدا، وأنّ الحاجز الاخير المتبقّي هو الاعتراض السعودي. من هنا ستستمر محاولات عون لفتح ثغرة في الجدار السعودي، خصوصاً بعدما ربط «حزب الله» موقفه النهائي من الاستحقاق بموقف عون.

ويتوقع مؤيّدو عون أن يلين الموقف السعودي في نهاية الأمر، وأن تمرّر الرياض إشارة المرور عبر الرئيس سعد الحريري. ولكنّ هؤلاء، والذين لا يتوقعون تلمّس شيء جدي قبل مرور بضعة اشهر، يتوقعون أيضاً حصول تفاهمات عريضة مع السعودية، ومن ثم بين عون و»حزب الله» على العناوين العريضة للمرحلة المقبلة.

في المقابل، يَفرُك رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع يديه، فهو يكثر من رسائل التودد الناعمة إلى الحريري والسعودية على أساس أنه نجح في إحراج «حزب الله»، وهو لن يتردد في المشاركة الشخصية في ذكرى 14 شباط في حال مجيء الحريري الى بيروت للمشاركة شخصياً في الاحتفال، فذلك قد يخفّف من التباعد الحاصل بينهما ويمنع الحريري من انتقاد جعجع ولَو بشكل غير مباشر كونه موجوداً.

وفي النهاية، يراهن جعجع على أنه فرضَ نفسه منذ الآن رئيساً للجمهورية خلفاً لعون على أساس وصول المسيحي الأقوى الى سدّة الرئاسة. ولكن السؤال هو: هل هذه الحسابات المُبسّطة تتطابَق مع التطورات والمتغيرات المعقدة في الجوار؟

سؤال يحتاج الى جواب.