لم تحمل المصالحة التاريخية والوجدانية، التي رعاها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي بين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، ورئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية معاني ودلالات تعني المسيحيين اللبنانيين حصراً، إنما حملت أيضاً معاني فوق مسيحية، من حيث دلالاتها الأوسع والأعمّ من سياقها المسيحي الخاص.
صحيح أنّ هذه المصالحة تطوي صفحة أليمة ودموية في التاريخ الحديث للموارنة اللبنانيين، وبالأخص لموارنة الشمال، إلّا أنّها في الوقت نفسه تطوي صفحة أليمة من صفحات الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975. وهي الحرب التي تعني اللبنانيين جميعاً ليس في مآسيها وويلاتها وحسب، وإنّما أيضاً من حيث قدرهم جميعاً أن يطووا صفحتها إذا أرادوا فعلاً أن يتطلّعوا إلى المستقبل ويقيموا السلام والسلم بينهم.
أهمّية «وثيقة بكركي – القوات اللبنانية وتيار المردة»، التي صدرت عقب المصالحة بين جعجع وفرنجية، أنّها أسّست تاريخ مصالحات ما بعد الحرب الأهلية على وثيقة الوفاق الوطني في الطائف. أي أنّها حدّدت اتفاق الطائف نقطة إنطلاق لهذه المصالحات المتتالية، سواء بين قوى من طوائف مختلفة، أو بين قوى ضمن طوائف بعينها. ما يعني حكماً أنّه من دون إقرار هذه الوثيقة ما كان في الإمكان الخروج من واقع الحرب وإجراء المصالحات تباعاً.
ما قالته «وثيقة بكركي» يكتسب أهميّة قصوى في وقت ثمّة محاولات لإخراج اللعبة السياسية عن إطارها المرجعي الأساسي، أي الدستور، الذي حُمِّل روحية وثيقة الوفاق الوطني وفلسفتها. هذه الفسلفة التي قامت أساساً على أولوية إرساء قوّة التوازن على لعبة موازين القوى. بمعنى أنّ مبدأ العيش معاً في لبنان لا تتحقّق شروطه بناء على موازين القوى غير الثابتة بطبيعة الحال، وإنمّا من خلال تأكيد مبدأ التوازن في الدولة والمجتمع، من حيث اعترافه بـ «التعدّدية اللبنانية»، والحرص على إدارتها بأفضل الممكن.
فضلاً عن أنّ صدور هذا الموقف من الصرح البطريركي في بكركي، هو بمثابة تجديد الشرعية المسيحية لـ «وثيقة الوفاق الوطني». وأيّ شرعية يمكن أن تفوق شرعية المصالحة التي وضعت حدّاً لحرب أهلية استمرت 15 عاماً، شاهدت فيها الكنيسة أبناءها «يُقتلون ويَقتلون ويتقاتلون»، كما ورَد في نصّ «الكنيسة المارونية والسياسة».
ما لم تقله «وثيقة بكركي» لناحية المعنى الفوق مسيحي لمصالحة جعجع – فرنجية، قاله البطريرك الراعي بإعلانه رفض «الثنائيات والثلاثيات والرباعيات»، مقابل اعترافه بـ «ثنائية واحدة، هي عندما نقول أنّ لبنان ذو جناحين مسيحي ومسلم متساويين متكاملين». وهو موقف موصول حكماً بفلسفة «وثيقة الوفاق الوطني»، التي أكّدت عبر مبدأ «المناصفة»، الوجه الإسلامي – المسيحي للبنان، مع تأسيسها لمسار دستوري لإلغاء الطائفية السياسيّة.
ومن أولى بتذكره، في هذه المناسبة بالذات وخصوصاً عند استعادة معنى المصالحة في اتفاق الطائف، من سمير فرنجية. وهو الذي وجد الشرعيّة الأولى لهذا الاتفاق في كونه وضع حدّاً للعنف الأهلي الذي بلغ أقصاه مع الحرب الأهلية بين 1975 و1990. وهو العنف الذي خبره فرنجية يوم كان يافعاً في بيت أبيه حميد قبلان فرنجية، في مزيارة وفي زغرتا وفي طرابلس، فكان ذلك العنف منطلق «رحلته إلى أقاصي العنف».. تلك الرحلة التي دوّنها سمير فرنجية قبل سنوات قليلة من رحيله. كتبها بمثابة وصيّة بأن اطووا صفحة العنف والحرب واعملوا لسلام لبنان كفكرة وحيدة نقيضة لهما.. تجد جذورها في اتفاق الطائف.