Site icon IMLebanon

خيّاطو طرابلس يقاومون النهاية…

 

 

من لا يعرف خان الخياطين في طرابلس؟ ذلك الإرث الذي يعبق بالتاريخ. كل ما في هذا المكان يتكلم رغم الصمت المطبق عليه. قناطره الحجرية المتصدّعة وأبوابه الخشبية القديمة وبلاطه العتيق، كلها تروي حكايات من ماضيه. يصعب أن تقاومه نظرات العابرين، فالمكان يجذبها بقوة مغناطيس رغم فراغه. فلا رواد هنا. لا “خبطات” أرجل ولا صراخ صغار ولا خلافاً على الأسعار، وحدها الألبسة المعروضة على المانوكان تُصارع الريح. لا شيء سوى الفراغ الذي يملأ قلوب الحاضرين بالملل.

 

“إنتهى زمن الخياطة” يقول الرجل الستيني. يجلس وحيداً على كرسي بلاستيكي وبين يديه قطعة قماش يُمرر فوقها إبرة آلة الخياطة بحرفية. يرتدي معطفاً أسود رثّاً ويضع “قلوسة” على رأسه تقيه برودة الشتاء الجاف. ينحني بظهره المحدب فوق القماشة. يُعدّل وضعية نظارته القديمة. يُفتش على إبرة بين كومة الأدوات على الطاولة أمامه. يجدها فيرفع ناظريه نحو الشارع بلمحة خاطفة ثم يعود إلى انشغاله بالإبرة والخيط. يمررهما بانتظام بين يديه. يُحدق بهما بإمعان بالغ كأنه يُعيد إحياء العظام. تخرج القماشة من بين يديه بحلّة جديدة كأنها خُلقت من جديد. عن بُعد، تضيع صورته وسط رفوف الثياب والأقمشة والأكياس المُعلّقة من حوله، وذلك الدَرج الخشبي الذي أوشك أن يُسجل على لائحة المقتنيات الأثرية. الرجل ليس صاحب المكان فعلاً، لكنه أوشك على أن يكون كذلك، فلا أحد يزوره ولا يمسح الغبار عن مقتنياته سواه. هو يعمل فيه منذ ما يزيد عن عشر سنوات. هو الخياط حافظ محيش، الذي عمل في مهنة الخياطة قبل أن يُكمل الـ 13 عاماً، “كنت طفلاً واستهوتني المصلحة. الآن ناهز عمري الستين ونيفاً ولا تزال تستهويني ولا يُفارقني شغفها”.

 

هو أب لأربعة شبان وثلاث بنات وجدٌّ لستّة أحفاد. “ربيت أطفالي من هذه المصلحة، واشتريت شقتين يوم كانت أسعار العقارات تُقدّر بالليرة والقرش”، يقول من دون أن يرفع نظره عن قطعة القماش. يصمت لوقت طويل قبل أن يُكمل حكايته: “إعتدت على الصمت هنا، فمنذ زمن بات ولوج الزوار إلينا نادراً”. ينظر إلى أحدهم ويرد عليه تحيةً بإيماءة خاطفة ثم يستعيد ماضيه: “بدأت العمل لدى شخص من آل ميقاتي صاحب أربعة محلات خياطة في الخان، ثم انتقلت إلى هذا المحل الذي تعود ملكيته إلى شخص من آل نشابة”. ويضيف: “إن لم تخنّي الذاكرة فإن خان الخياطين يعود إلى ما قبل العهد المملوكي وتعود ملكيته حالياً الى دائرة أوقاف طرابلس. يتألف من طبقتين، وتبلغ مساحته الإجمالية نحو 1200 متر مربع، ويضم 26 محلاً تجارياً و26 غرفة في الطابق العلوي. واكب الخان مختلف الأحداث والأزمنة، لدرجة أُعيد ترميمه أكثر من مرة. كانت الحرب العبثية بين جبل محسن وباب التبانة أكثر المعارك تأثيراً على بنيته، فقد طاولته القنابل والرصاصات. اليوم بات كالعديد من خانات طرابلس لوحة للعرض يمر فيه الناس للفرجة وليس للشراء”.

 

مصلحة لا تطعم خبزاً

 

فقد العم حافظ الكثير من أصدقاء المهنة، “بعضهم قضوا والبعض الآخر ترك” المصلحة “فهي ما عادت بتطعمي خبز”. ويروي أن طرابلس عندما سقطت في أيدي الصليبيين، كان فيها أكثر من أربعة آلاف شخص يعملون فقط في حياكة النسيج الذي يستخرجونه من دود القز، الذي اشتهرت المدينة في صناعته. فقد صُمم الخان ليستوعب أكبر عدد ممكن من التجار والزوار، فأنشئ له مدخلان رئيسيان لهما بابان من الخشب. “كان لهذا المكان الفضل الأكبر في شهرة طرابلس العربية والعالمية، فهو شكل عاملَ جذب لمختلف التجار العرب والأوروبيين الذين كانوا يقصدونه، ليحملوا الى بلادهم الأقمشة والألبسة العربية التقليدية لكن المهنة ماتت”، حسبما يقول. العبارة الأخيرة ترددت مراراً على لسانه. “هي ضحية التطور” يقول، “فالألبسة الجاهزة وإغراق السوق بالبضائع المستوردة لم تترك مجالاً أمامنا للمنافسة. إنتقلنا من خياطة الثياب إلى مجرد ترقيعها”. على لافتة عُلقت على باب المحل الخشبي كتب العمّ حافظ بخط يده: “لدينا فرع 2 للخياطة النسائية، إختصاص ساري هندي”. عندما سألته عن معنى الكلام أجاب: “إنها أزياء هندية تقليدية يطلبها البعض ونحن قادرون على خياطتها، فلا بد أن نُعلم الزبائن بذلك”. من اعتاد من الطرابلسيين على خياطة الملابس، لا سيما من أبناء العائلات الميسورة، لا يزال يفعل ذلك. بحسب العم حافظ: “هؤلاء قلّة لا يرتادون الأسواق بل يزودوننا بالقماش ونحن نخيط لهم القمصان والبزات الرسمية وفق مقاساتهم المُسجلة على الدفتر. من بين هؤلاء أحد الوزراء السابقين الذي نُخيط على حرف الجيب الأيسر من كل قميص له أول حرف من اسمه وشهرته”.

 

من تبقى من الخياطين في الخان يقاومون الزمن. حاولوا الاحتيال على التكنولوجيا وانتقلوا من خياطة الألبسة فقط إلى صناعة الألبسة التراثية المحلية من العباءات المطرزة والشراويل والطرابيش، فضلاً عن الأزياء الطرابلسية القديمة، والأرتيزانا والتطريز وبيع الأقمشة.

 

التعلق بحرفة الخياطة ليس تعلقاً بالماضي، وفق العم الستيني، “إنه تعلّق بالحياة والوجود، ففي اللحظة التي سأتوقف فيها عن الخياطة سأنتهي، وكأنني أرمي بنفسي في البحر وأنا لا أتقن السباحة. فماذا أصنع إن تقاعدت سوى انتظار النهاية؟”.