Site icon IMLebanon

خذوا أسماء لصواريخكم من أطفال الغوطة

 

استطاعت روسيا فرض ستاتيكو براغماتي في أروقة مجلس الأمن حين وفّقت بين تمريرها لقرار مجلس الأمن رقم 2401 بعد استعمالها حق الفيتو 12 مرة على التوالي، وبين رفضها تمرير قرار إدانة إيران لخرقها القرارات الدولية لحظر توريد الأسلحة إلى اليمن. بالتوازي، دخلت روسيا مرحلة جديدة في رسمها للوقائع على الأرض السورية متخطية المسارات التي رعتها في أستانة وسوتشي، عندما كانت تبحث عن انخراط إقليمي في ترتيب مناطق النفوذ، وعن عناوين تُناسبها للحل السياسي، هذه المرة من خلال دخولها المباشر في معركة الغوطة، التي تفرز الديموغرافيا السورية تبعاً لرغبة إيران. وقد استكمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مظلته الحمائية لحلفائه في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية، الذي أكد فيه أن «أي استخدام للسلاح النووي ضد روسيا أو حلفائها، سنعتبره هجوماً نووياً على بلادنا، والرد سيكون فورياً».

واضح تبعاً لهذا التسلسل أن روسيا تعتبر حمايتها لإيران واحداً من الدواعي الاستراتيجية لحضورها وقوتها في التوازن الدولي في شكل عام، وليس فقط في الساحة السورية، والمصلحة المشتركة بينهما تقوم على تلازم انخراطهما معاً في حماية نظام بشار الأسد، مع كل ما يحمله ذلك من تداعيات ديموغرافية ثُبِّتت وقائعها بعد معركة حلب، وتشهد عليها حالياً أحداث الغوطة، ومع كل ما يعني ذلك من تحمّل روسيا لأكلاف هذه السياسات، خاصة حين لا تظهر قدرتها على إدارة مجمل التناقضات التي تنشأ بين الفاعلين على الأرض السورية، وأحياناً كثيرة بين الحلفاء ذاتهم.

وهذا بالمعنى الفعلي يُمكن أن يُحتسب في خانة التورّط والاستنزاف الذي يجذب الإمكانات الرئيسية لروسيا نحو الغرق في اليوميات السورية، مع ما يفترضه ذلك من انتقالها إلى الوضعية الدفاعية في أوروبا، وسعيها وراء لعب دور الوسيط بين الأميركيين ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون في آسيا.

بعد الغارات التي استهدفت القاعدة الروسية في حميميم وإسقاط الطائرة في إدلب، كان النظر إلى طبيعة الرد الروسي كفيلاً بتوضيح معالم استراتيجيتهم المقبلة هناك، على أساس أن واقعاً غير مُستقر من البديهي أن يقودهم إلى مراوحة غير مجدية تبعدهم عن طموحهم السياسي وعن المصالح الاقتصادية التي يبحثون عنها، والأنجع في هذه الحال كان يفترض تشجيع التسوية السياسية كضامن لحضورهم في استراتيجية الشرق الأوسط البعيدة الأمد.

لكن روسيا اختارت الانخراط المباشر في الداخل والانتقام لتشوُّه صورتها، ومن الطبيعي أن يتسبب ذلك بالتصاق أكبر مع القوى والميليشيات العاملة على الأرض، وأن يجرّها أيضاً إلى انقياد وانفعالات غير مدروسة كفاية.

هذه المفاضلة تحد من قدرة روسيا على اعتبار الاستحقاق السوري محطة يمكن الانطلاق منها إلى أماكن أخرى مثل ليبيا وشمال أفريقيا، أو حتى اليمن والبحر الأحمر، وهذه الإمكانات كانت مطروحة على الروس سابقاً قبل التغيّر الذي جرى مع الإدارة الأميركية الجديدة. الفجوة التي نشأت نتيجة عجز روسيا عن التمدد إلى ساحات إضافية كأي قوة عظمى صاعدة، سعى الرئيس بوتين إلى ردمها بالإعلان عن أسلحة جديدة متطورة تضعه في مكانة التنافس التقليدي مع الولايات المتحدة، وفي صدارة الصراع الكوني. ومَن يتطلّع إلى الجانب الاستعراضي للإعلان الذي وصفه الأميركيون بـ «الرسوم المتحركة»، يلمح بوادر استثمار للنتائج، وغَرَضيّة لا تتعلق بانتخابات الرئاسة في روسيا بقدر ما تركز على الجانب الدعائي الذي ذهب إلى حد طلب السفارة الروسية في الولايات المتحدة من المواطنين الأميركيين اقتراح أسماء يطلقونها على الصواريخ والأسلحة الجديدة التي تحدّث عنها بوتين!

طبعاً هذا التصعيد كان استبقه البنتاغون بالحديث عن تطوير القدرات الحربية في الفضاء، إلى درجة إعلان سلاح الجو الأميركي أن بمقدوره الضرب من الفضاء بعد عدة سنوات.

في ظل هذا الجنون النووي الذي ينزلق إليه العالم الذي سجّل رقماً قياسياً في الإنفاق الدفاعي خلال العام 2017، يُعد الأكبر منذ الحرب الباردة، يجري استسهال التلويح باستخدام السلاح النووي ليس على سبيل الردع فقط.

وبقدر ما يمثل ترامب في هذا السجال مدرسة المحافظين الجمهوريين، وخلاصة العرق الأبيض في البر الأميركي، يمثل بوتين جوهر العقل السوفياتي الخارج من الانتصار على الفاشية والباحث عن أمجاد على قياس الإمبراطورية، فحين يتباهى ترامب بأن الولايات المتحدة أرسلت أول البشر إلى القمر وأركعت الشيوعية، يأتي رد بوتين بأنه لو استطاع حينها لَمَنَع انهيار الاتحاد السوفياتي. طبعاً هذا ليس فقط سجالاً بين رؤساء دول عظمى بقدر ما هو صراع بين إيديولوجيات عميقة تعيد إنتاج ذاتها بعد استراحة، وتقود العالم إلى هستيريا تزيد من هشاشة النظام الدولي وتجهض معاييره وتطلق يد النماذج التي تفتك اليوم بالسوريين.

طبعاً حرب الغوطة تقع في الوسط من كل ذلك، ودماء أطفالها ترسم معالم النظام الكوني الجديد بكل مساوئه على جدران حطمتها صواريخ وترسانة حربية لقيطة… تبحث عن أسماء!