بعد ساعات من اغتيال الضابط الفتحاوي طلال الأردني، أمكَن وفق معلومات «الجمهورية» اكتشاف القتلة وهم ثلاثة أعضاء ينتمون لمجموعة «فتح الاسلام» المنخرطة حالياً ضمن الجماعة الأكبر المسماة «الشباب المسلم» التي يقودها الشيخ أسامة الشهابي المشكوك في وجود علاقات مباشرة له مع تنظيم «القاعدة».
تشكلت مجموعة تنفيذ اغتيال طلال الأردني من ثلاثة إرهابيّين يرتبطون بالإرهابي بلال بدر الذي قاد شخصياً مجموعة الثلاثة المنفّذة التي ضمَّت اليه، كلاً من عمر الناطور وساري حجير، وكلاهما إرهابيان ارتبط اسمهما ببلال بدر الاخطر على لوائح قوائم المطلوبين للقضاء اللبناني بتهمة الارهاب، وأيضاً بوصفهما من نشطاء «فتح الاسلام» سابقاً، و»الشباب المسلم» حالياً.
لم يعد مفيداً الآن الاستغراق في رصد حيثيات جرائم الاغتيال التي تنفّذها جماعة «الشباب المسلم» في مخيم عين الحلوة ضدّ كوادر «فتح» أو غيرها داخل المخيم. فجريمة اغتيال الضابط الفتحاوي طلال الأردني لا تضيف على المشهد الخطر في المخيم أيّ جديد، بل تُعزّز مصداقية التقدير الذي يفيد منذ فترة بأنّ عين الحلوة ينزلق نحو انفجار، سِمته الاساسية نشوب قتال داخله يحاكي ما يحصل في مخيم اليرموك قرب دمشق، ويلحق عين الحلوة وربما جواره اللبناني بمشهد «اقتتال الربيع العربي».
أحد الضباط الامنيين اللبنانيّين قال، قبل نحو شهرين للوفد الفلسطيني المؤلف من كلّ قوى المخيم أثناء اجتماع عقد في سفارة فلسطين في بيروت لدرس وضع عين الحلوة: «لا ادعوكم الى إراقة دماء، بل أقلّه إلى إظهار إرادة موحّدة ترسل إلى التكفيريين رسالة بأنكم جادون في حماية أمن المخيم. وإذا لم تتفقوا على طريقة للقضاء على المجموعات التكفيرية الموجودة في المخيم، ستُبادر هذه الاخيرة الى اغتيال قيادتكم الواحد تلك الآخر!؟»
وهذا ما يحصل اليوم بالفعل. فجماعة «الشباب المسلم» التي يقودها الشيخ اسامة الشهابي السلفي الجهادي المصنّف على أنه من مناخ «القاعدة»، تستمرّ في توسيع انتشار نفوذها في المخيم، متسرّبة الى داخل احيائه بعدما كان وجودها محصوراً في حيّ التعمير عند أطرافه.
ويستمرّ الشهابي في الانتقال من حال المدارة لمعادلة الامن في المخيم تحسّباً من رد فعل صارم ضده، الى «حال التجرّؤ» على معادلة استقرار الامن فيه المتوافق عليها بين فصائل المخيم الوطنية والإسلامية المختلفة والأجهزة الأمنية اللبنانية.
ويتمّ التعبير عن حال التجرّؤ هذه الهادفة إلى السيطرة على معادلة الامن في المخيم، من خلال تتابع مسلسل تنفيذ جماعة «الشباب المسلم» عمليات اغتيال ضدّ قادة الفصائل الفلسطينية الوطنية وضدّ اشخاص لبنانيين وفلسطينيين في المخيم تربطهم علاقة بـ»حزب الله».
ولعلّ الجديد الخطر الذي يُضيفه اغتيال طلال الأردني، يتمثل في أنه حصل في وضح النهار وفي قلب أحد شوارع المخيم الرئيسة (الفوقاني)، ما يدلل على أنّ منسوب تجرّؤ الجماعة التفكيرية على المخيم أصبح أكبر وأقوى، وباتت أكثر ثقة بنفسها لجهة البدء بتنفيذ مشروع إثبات وجودها كقوّة ليست في رسم الضبط ولديها القدرة على فرض رؤيتها وأجندتها على المخيم.
هذا المعنى الاخير يحفل به عامل انتقاء «الشباب المسلم» توقيت عملية اغتيال الأردني، إذ إنّ تصفيته حصلت بعد دقائق من توقيع اجتماع اللجنة المشتركة الفلسطينية آلية لضبط الوضع الامني في المخيم. والواضح أنّ جماعة «الشباب المسلم» تقصّدت من هذا التوقيت، توجيه رسالة إلى أطراف الاجماع الفلسطيني في عين الحلوة وإلى الدولة اللبنانية التي تشجع مساعيها لضبط أمن المخيم، مفادها: اشربوا حبر قراراتكم!
لماذا تتلكّأ الأطراف الفلسطينية عن قمع جماعة الشباب المسلم؟
الاجابات المتوافرة عن هذا السؤال تخالطها هواجس وشكوك لبنانية لم تعد خافية. فرام الله حيث الرأس المركزي لحرة «فتح» والسلطة الوطنية المركزية، تمارس منذ فترة غير قصيرة سياسة «النأي بالنفس» عما يحدث في عين الحلوة.
ومرة تلوَ الاخرى يرسل الرئيس الفلسطيني محمود عباس مبعوثه عزام الأحمد الى بيروت للمساهمة مع الدولة اللبنانية وفصائل المخيم في إنتاج آلية عملية لمنع انزلاق المخيم الى الانفجار. لكن يتبيّن كلّ مرة أنّ مهمات الأحمد شكلية، وأنها تتمّ من باب رفع العتب عن رام الله.
أما الفصائل الفلسطينية الوطنية داخل المخيم وعلى رأسها «فتح»، فهي مستغرقة في انقساماتها من جهة وعدم ثقتها من جهة ثانية بأنّ الفصائل
الاسلامية ستسير معها فيما لو اتخذت قرار تصفية بؤرة ارهابي المخيم، أو حتى إنها لن تنقلب عليها.
هناك «نغمة» جديدة تستخدمها فصائل إسلامية في المخيم لتبرير عدم ذهابها لضرب جماعة «الشباب المسلم»، وهي الادّعاء بأنّ تركيبة المخيم العشائرية لا تسمح بذلك، لأنّ الحرب على مجموعات الإرهابيّين الشهابي وبلال بدر وهيثم الشعبي وغيرهم المنتمين الى تركيبة العشائر الفلسطينية اللاجئة، لن تظلّ محصورة بهم، او في إطار أنها حرب المخيم ضدّ ارهابيين، بل ستفتح حرباً بينية في عين الحلوة على أساس عشائري.
بصرف النظر عما اذا كان هذا الطرح ينطوي على وجاهة أم أنّه تبريري وتذرّعي، فإنّ الواضح أنّ سبباً جوهرياً غير معلوم هو الذي يُغطّي هذا العجز تجاه تحصين امن المخيم وقمع نشاط الإرهابيين فيه، الممتد من رام الله الى عين الحلوة وصولاً إلى هيئات دولية ممثلة لدول القرار التي تتحدّث عن أنّ استقرار لبنان خطّ أحمر.
وأخيراً، أُثير في كواليس معنية، سؤال عن خلفيات وجود حال استخفاف معمَّمَة بخصوص السعي لإنتاج تهدئة في المخيم. ومن الأمثلة التي تُضرب هو القرار الخاطئ الذي اتخذته «الأونروا» بتعيين مدير لها في المخيم لديه صلات معروفة بالجماعات التكفيرية، ما أثار تساؤلاتٍ عن خلفيات هذا الانتقاء الذي يفتح لإرهابيّي المخيم باب التقديمات الاجتماعية الامر الذي يُعزّز انتشارهم شعبياً فيه، فيما المطلوب محاصرتهم وعزلهم.
الحلول الغائبة
ومرة أخرى تكرّر «الجمهورية» سؤالاً كانت طرحته في رسم الدولتين اللبنانية والفلسطينية، وهو «ما الحلّ في عين الحلوة»؟
في كواليس المخيم، تتردد إجابات افتراضية في محاولة لاختراق «يأس عدم القدرة»؛ أبرزها سيناريوان للحلّ: الاول يتحدّث عن المبادرة لاحتواء تعاظم المناخ السلفي الجهادي في المخيم الناتج عن انتشاره الاقليمي المعدي، وذلك عبر حقن هذه الجرثومة بطعم من نوعها ولكن أقلّ خطراً.
والمقصود هنا إنهاء مرحلة استمرار «أبو محجن» أمير «عصبة الانصار» بالامتناع عن الظهور العلني في المخيم بسبب ارتكابات إرهابية سابقة يوجد بحقها مذكرات توقيف قضائية.
ويفترض هذا السيناريو أنّ «أبو محجن» لديه هالة تاريخية في المخيم داخل الوسط السلفي، وطالما أنّ «عصبة الانصار» تخلّت عن سلوكها السابق المتشدّد لمصلحة الانخراط في الجهد الفلسطيني العام الساعي للنأي بالمخيم عن أحداث المنطقة، يمكن الاستعانة بنفوذه السلفي الكبير، وغضّ النظر موقتاً عن ارتكاباته الكبيرة (بينها قتل القضاة الثلاثة في صيدا) تحت مبرّر الضرورة القصوى التي تمليها تكليفه بمهمة سحب المناخ السلفي في المخيم من حال «الشباب المسلم» المتطرفة الى «حاله المستجدّة المعتدلة».
السيناريو الثاني يتحدث عن خيار «فتح» إجراء اتصالات مع دول «اليونيفيل» لتضغط دولياً لاتخاذ قرار لبناني اقليمي دولي لضبط المخيم. ويتوسّل هذا السيناريو تبريراً يفيد بأنّ أيّ انفجار في المخيم سيكون له تأثير على القرار 1701 الخاص بانتشار «اليونيفيل» في قطاع ما بعد الليطاني.
صحيحٌ أنّ عين الحلوة موجود في منطقة خارج نطاق القرار 1701، لكنّ انفجاره الامني سيقطع طريق الساحل الجنوبي وهو خط الامداد اللوجستي الرئيس لقوات «اليونيفيل». ومن هذه الزاوية الحيوية، فإنّ أمن الـ1701 لديه صلة وثيقة باستقرار مخيم عين الحلوة، ما يُبرّر لدول «اليونيفيل» الإسهام مع الدولة اللبنانية بحراك دولي للتعاطي مع ملفه المقلق.
وتذهب هذه المقاربة أبعد حينما تلفت النظر الى أنّه في حال تطوّر انهيار الامن في عين الحلوة على نحو يهدد سلاسة أمن المرور على الطريق الساحلي المجاور له، فإنّ «اليونيفيل» قد تلجأ حينها الى تبديل لبنان كمركز لعمليات إمدادها اللوجستي، لمصلحة اسرائيل واعتماد ميناء حيفا مرفأً لنقل معداتها الى الجنوب بدلاً من مرفأ بيروت.