IMLebanon

التنظيمات التكفيرية وتحولات الحرب السورية

في بدايات الحرب السورية، لم تكن التنظيمات التكفيرية في الحسبان لجهة تأثيرها المفصلي في مسار النزاع بأبعاده الداخلية والإقليمية والدولية. دولة الخلافة الداعشية وسائر التنظيمات السلفية المسلحة شتتت محاور النزاع، وهي الآن تجمعها وتفرقها في آن.

وكان لداعش وإرهابه المعولم دور محوري في تدويل النزاع بعدما أعلن الحرب على «الكفار»، أينما حلّوا، ولاقى الدعم من جهات عديدة لأسباب بعضها مرتبط بالنزاع السوري وبعضها الآخر بمسائل تتجاوزه.

الرابط الأهم للتنظيمات التكفيرية في سوريا محوره الجغرافيا، أي أن سوريا «أرض جهاد» متاحة، مثلما هي ليبيا وأفغانستان والعراق، أو أي بقعة جغرافية في أي مكان في العالم، فأطراف النزاع بنظرهم سواسية في «جاهليتهم» وخروجهم عن الدين: النظام والمعارضة وقوى الخارج، لأي دين انتموا ومع أي دولة ارتبطوا. الحل في سوريا، بمعزل عن مضمونه ومساره الشائك، لا يمكن أن يضم التكفيريين، وهم أسياد الميدان. كما أن العملية السياسية غير مرتبطة بمراميهم «الإلهية».

روسيا دخلت الحرب السورية في بداياتها، وجاءت التنظيمات التكفيرية التي جذبت جهاديّي الشيشان وسواهم لتزيد من زخم العمليات العسكرية لضرب الإرهاب التكفيري، عدو موسكو المعلن قبل النزاع السوري. تركيا دعمت التنظيمات المتطرفة الآتية من العالم أجمع عبر الحدود التركية، إلى أن تحولت هدفا لإرهابها وفي عقر دارها. إيران ساندت النظام من اليوم الأول ومعها «حزب الله» ولم تراهن على إمكانية التلاقي مع التنظيمات التكفيرية، وهم في مواجهة لا مهادنة فيها مع « الروافض». دول الخليج، لا سيما السعودية وقطر، دعمت أطراف المعارضة المسلحة، وبعضها لا يختلف عن داعش سوى بالإسم.

أما الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، خصوصاً فرنسا، فجاء رهانها خاطئاً على خطين: رهان على سقوط سريع للنظام، مثلما حصل في ليبيا وتونس ومصر، ورهان على إعداد مقاتلين على قاعدة الفصل الوهمي بين التطرف والاعتدال في صفوف التنظيمات السلفية المتطرفة. الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي قرر عدم التدخل عسكرياً في سوريا بعد مغامرة العراق المكلفة، تورطت إدارته بعملية تدريب فاشلة لمقاتلين «معتدلين». اكتفت واشنطن بإنجاز إخراج السلاح الكيميائي من سوريا وكانت منشغلة بالمفاوضات مع ايران ومطمئنة إلى أن إسرائيل خارج الاستهداف من أطراف النزاع.

أخذت الحرب السورية مداها طيلة خمسة أعوام وانخرطت فيها معظم الأطراف المحتملة، مباشرة أو بالواسطة، من الداخل والخارج. وقد تكون بلغت الحدّ الذي بلغته حروب لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وتدخّل الدول الكبرى والصغرى، مع التأكيد على الفارق الكبير بين النزاعَين والاعتبارات الداخلية والخارجية التي تحكّمت بمسار كل منهما.

مشاريع التسوية بدأت ملامحها تظهر، إلا أنها لا تزال أسيرة الواقع الميداني وموازين القوى العسكرية. يبدو أن تركيا حسمت أمرها لجهة الانخراط بالحل في وجهَيه العسكري والسياسي، وإن لم تحسم خياراتها النهائية. موقف أنقرة من الأكراد معروف وموقفها من النظام وأطراف المعارضة يخضع لاعتبارات مرتبطة بظروف التسوية عندما تأتي.

تقارب الضرورة بين الدول الكبرى، روسيا وأميركا تحديدا، والتنسيق الروسي مع إيران وتركيا خطوات قد تكون مفيدة في التوقيت المناسب. إلا أن العملية السياسية لإيجاد تسوية ممكنة للنزاع تخص أطراف الداخل، ولكل منها موقعه المتصل بتطورات الميدان، مباشرة أو بالواسطة، عبر شريك خارجي نافذ.

التلاقي الظرفي بين روسيا وأميركا على ضرب الإرهاب ساهم في تأجيج الصراع بين التنظيمات المتطرفة التي شهدت إعادة تموضع جديدة فرضها التدخل التركي والأميركي المباشر في النزاع. ولم تلبث الهدنة الأخيرة أن سقطت، فبات النزاع يقاس بمرحلة ما بعد الهدنة والمواجهات التي تلتها.

«مفاوضات» الميدان انطلقت بطبعتها الجديدة. روسيا، المنخرطة في النزاع عسكريا وسياسيا، تبدو أكثر استعجالا لإيجاد حل من الولايات المتحدة، لكن ليس إلى حدّ التضحية بمصالحها في سوريا وخارجها. أميركا مربكة وغير راغبة بأن تدخل الحرب عسكريا بكامل قواها، كما أنها غير قادرة على التراجع بلا مردود بعدما استهدفت طائراتُها الجيشَ السوري، ما جعلها طرفا مباشرا في الحرب. أميركا وروسيا «تتحاوران» عبر الموقف من «داعش» ومثيلاته وعين كل منهما على تسوية سياسية لا مكان للتنظيمات التكفيرية فيها. هذا يعني المزيد من التخبط وخلط الأوراق بلا ضوابط أو حدود. ولهذا «الحوار» الدموي ضحايا كثر من المدنيين الأبرياء.

إنها مرحلة جديدة من نزاع متواصل تبتعد فيه إمكانية التسوية السياسية، وإن بدت ممكنة في لحظة تقاطع مصلحي عابرة.

* نائب.