عادت حركة طالبان منتصرة إلى كابل وانهالت معها مئات الأسئلة حول تداعيات هذه العودة وأبعادها وآثارها في الداخل الأفغاني وعلى العالم العربي والإسلامي، وما هو شكل الدولة الأفغانية التي ستولد من رحم سيطرة الحركة، وما هو الموقف الدولي منها، وكيف تتبلور رؤية وعلاقة العرب بهذه الحركة التي تجاوزت عشرين عاماً من الإقصاء والمواجهة مع الدولة الأقوى في العالم،
مجمل الأنظمة العربية والإقليمية، كانت إلى جانب نظام الحكم الذي أرسته الإدارات الأميركية منذ احتلالها لأفغانستان، بعد إسقاط حكم طالبان على خلفية هجمات 11 أيلول عام 2001، وبعضها كان له أدوار عسكرية وأمنية في هذه المنظومة، فغادرت بعثاتها الدبلوماسيةُ كابل، وأنهت وجودها الأمني بعد انهيار حكومة الرئيس أشرف غني وفراره من البلد، لتبدأ مرحلة الترقب لمآلات المشهد الأفغاني، وكيف سيترك آثاره في الإقليم وفي أي اتجاه ستذهب طالبان وأيّ طريق ستسلك؟
التعريف العقائدي والسياسي لطالبان
لمعرفة بعض أوجه الإجابة على تلك الأسئلة، لا بدّ من وضع التعريف الواضح لحركة طالبان وجلاء الالتباسات حوله، وتبيان تطوّر المسار السياسي الذي سلكته لفهم أهميته في تظهير النسخة الجديدة من حركة طالبان على المسرح الأفغاني والدولي.
من الضرورة بمكان تفكيك الارتباط بين طالبان والتنظيمات «الجهادية»، من حيث الفكر والعقيدة، فالحركة تنتمي إلى «الديوبنديّة» و«ديوبند» هو اسم بلدةٍ في شبه القارّة الهنديّة تقع فيها جامعة دار العلوم الإسلاميّة، وهي أكبر جامعةٍ في شبه القارّة الهنديّة، وصار اسمها جامعة ديوبند نسبةً إلى مكانها، وقد كان خريجو هذه الجامعة مطبوعين بطابع علميّ خاصّ يشتركون فيه جميعًا وتترسّخ جذوره الفكريّة في أنفسهم، ومع الزّمن صار يُطلق على هؤلاء الخريجين لقب «الديوبنديّة».
ومن أهمّ أعلام الديوبنديّة الحديثة المفكّر الإسلامي أبو الحسن النّدوي والشّيخ حبيب الرّحمن الأعظمي.
عموم حركة طالبان هم من أبناء الحركة الديوبنديّة الحديثة، وأمّا عن الانتماء العقدي والفقهي والطُّرُقي لحركة طالبان فهو ذاته الانتماء الديوبنديّ، فيقدّمه الباحثون ومنهم الباحث محمد خير موسى، على النّحو الآتي:
تنتمي طالبان إلى العقيدة الماتريديّة في غالب أفرادها، وهي منسوبةٌ إلى الإمام أبو منصور الماتريديّ وهو من أعلام أهل السّنة والجماعة، والماتريديّة وهي فرقة من أشهر فرق السّنة الاعتقاديّة وأقربها إلى الأشاعرة، والماتريديّة هو المذهب الاعتقادي لأتباع المذهب الحنفي في عموم أنحاء العالم الإسلاميّ، وهو الأكثر انتشارًا في أفغانستان والهند والصين، وبنغلادش، وباكستان، وتركيا، وإيران، والجمهوريّات الرّوسيّة المسلمة، وكان هو المذهب الاعتقاديّ الرّسميّ للدّولة العثمانيّة،وتنتمي شريحةٌ يسيرةٌ من طالبان إلى المذهب الأشعريّ المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري، بينما لا تكادُ تجدُ في صفوف طالبان سواء على مستوى الأفراد أو القيادات من ينتمي إلى التيّار السّلفي سواءٌ في ذلك السلفيّة النجديّة الوهابيّة المنسوبة إلى الشّيخ محمد بن عبد الوهاب أو غيرها من السلفيّات بما فيها السلفيّة الجهاديّة التي تفرّعت منها داعش والقاعدة.
يجمع الباحثون، ومنهم الصديق الباحث محمد خير موسى، على أنّ حركة طالبان ليست حركة سلفيّة جهاديّة ولا سلفيّة علميّة ولا سلفيّة حركيّة، فمن يحاول نسبة طالبان إلى داعش أو القاعدة فقد وقع في خللٍ منهجيّ وعلميّ، بل إنّ القاعدة وداعش ينظرون إلى طالبان بناءً على عقيدتهم على أنّهم مبتدعةٌ منحرفون في الاعتقاد لكنّهم كانوا يتعاملون معهم من باب الحاجة إلى التّحالف والواقعيّة السياسيّة التي تكفر بها داعش والقاعدة حيثُ لا تكون لهما حاجةٌ إليها.
لا جدوى من العزل والحصار
على المستوى السياسي، يجب التذكير بأنّ الغزو الأميركي الذي هدف للقضاء على طالبان انتهى بعد 20 سنة بعقد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اتفاقية سلام مع الحركة وبالانحساب التام من الأراضي الأفغانية، وهذا يعني أنّ تجارب العزل لا تفيد، وخاصة في هذا المقام.
من الخطأ ترك حركةٍ تفوّقت بالجانب العسكري، وتحتاج إلى المساندة في الحكم والإدارة والتنمية، فريسة القوى الدولية والإقليمية تستفردها أو تبتزها أو تضعها في موقف مخالف للمصالح العربية والإسلامية، لهذا يصبح الإقبال على التعاون مع طالبان وفق المساحات المشتركة، وأهمها الانتماء الإسلامي، وهي مساحة يجب العمل على أن تتحوّل إلى نقطة تطوير سياسية وفكرية وتحديداً في مجالات الفهم المعاصر للإسلام,
طالبان: ضرورات الحكم والانفتاح
مع وصولها اليوم إلى حكم أفغانستان، ستجد حركة طالبان نفسها مجبرة على مقاربة حاجات الدولة، وليس حاجات التنظيم، مع ما تعينه إدارة الدولة من تحديث وتطوير وحاجات إلى العلوم والتكنولوجيا والعلاقات مع العالم، كمدخل إجباري للحفاظ على الحدّ الأدنى من الحياة الاقتصادية والانتظام المالي في المجتمع، حيث لا يمكن إقامة منظومة تجارية أو صناعية أو زراعية أو سياحية، من دون الارتباط بالمجتمع الدولي ومن دون حصد اعترافه، فهذه دائرة متكاملة واجبة الإنشاء وصولاً إلى الاستقرار.
من المهم إدارة الحوار بين العرب وطالبان على قاعدة الاحتواء الإيجابي والبحث عن المصالح المشتركة، وهي كثيرة جداً، وتطوير الحوار على المستوى العلمائي والديني، وهنا يبرز دور علماء الأزهر الشريف والمملكة العربية السعودية، في توسيع دائرة التنفكير عند علماء طالبان من خلال النقاش حول القضايا التي تواجه الحركة في الحكم وفي إدارة حياة الشعب الأفغاني، وأهمها مسائل التنمية ببُعدَيها الديني والعملي على حدٍّ سواء، وكذلك دور الإمارات العربية المتحدة، بما لديها من خبرات في مجال حوار الأديان وفي التنمية والإدارة.
وفي ضوء المصالحات التي شملت مصر وتركيا وقطر والسعودية والإمارات، فإنّ من المهم التقاء جهود هذه الدول وتشكيل قاعدة للمصالح المشتركة، لمنع عودة الاحتراب الداخلي ودرء الفوضى وتقديم المعونة للشعب الأفغاني على جميع المستويات.
منطلقات المقاربة الناجحة لحركة طالبان
المُسَلّمة الأولى هي اقتناع العرب بإمكانية وجود نظام يحكم بالشريعة الإسلامية ويمكن الحوار معه لجعل هذا النموذج من الحكم عمليّة بنّاءة لمنع تحوله إلى منطلق للتخريب والإرهاب، خاصة أنّه ليس لدى طالبان أفق في التوسع وتصدير نموذجها للعالم، وهنا ينبغي الإفادة مما يحمله الشعب الأفغاني للعرب من محبة ومكانة تؤهّلهم لتحمّل مسؤولياتهم في وضع تجاربهم وإمكاناتهم في تصرّف طالبان، لتوسيع الأفق في هذا الحوار نحو رؤية أكثر تكاملاً ونضوجاً، وهو حوار يفيد الجميع، فهو يفسح المجال في التعرّف عن كثب على قيادة حركة طالبان، وهو ما سبقنا إليه الأميركيون وغربيون آخرون مع الأسف، ويتيح للحركة التعرّف على علماء العرب ويزيل التصوّرات المسبقة بين الجانبين.
هذه الزاوية مهمة في نقل التفكير الاستراتيجي عند طالبان من الزوايا الحادة القائمة حالياً، إلى الدوائر المتكاملة من خلال إضافة ما يحمله الإسلام من قيم فاعلة في مجالات التنمية، تختصرها مقاصد الإسلام الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال، وهي تشكّل قواعد أيّ سياسية تنموية يمكن طرحها، سواء في أفغانستان أو أي بلد من بلدان العالم الإسلامي.
فتأسيس الحوار ينبغي أن ينطلق من أنّ مفهوم التنمية ليس غريباً عن الإسلام، بل إنّه يأتي في عمق مقاصد الشريعة الإسلامية، فالنظرة الإسلامية للتنمية والعمران هي نظرة شاملة لجميع نواحي الحياة المادية والروحية والخلقية، وقد تحدث عنه مالك بن نبي في كتابه «المسلم في عالم الاقتصاد» عندما أكّد أنّ التنمية تتطلب الحضور الإنساني الفاعل في الحياة وليس مجرد الوجود فيها، فهي تتطلب أن يكون الإنسان فاعلاً ومؤثراً في الحياة وأن يضع بصمته في كافة المجالات.
من المفاصل الهامة أيضاً النقاش حول دور العمل الخيري في تعزيز وتطوير الاقتصاد، سواء فيما يتعلق بالموارد البشرية أو بالوسائل والآليات العملية للإنتاج، التي من شأنها أن توجد مستوى معيناً من الاستقرار الاقتصادي، وبالتالي تحفيز الناس على المبادرة والإسراع في تأسيس أعمال خيرية تستجيب لحاجات الشعب الأفغاني، خاصة أن حركة طالبان استطاعت أن تنجح في الحفاظ على جمع الزكاة في أكثر الظروف صعوبة وهي تحظى بدعم شبكة ضخمة من المدارس الدينية (الديوبندية) في باكستان وأوروبا، ومن شأن وضع رؤية استراتيجية للأعمال الخيرية أن يُحدث قفزة نوعية في حياة الأفغان الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية.
تحمل الرؤية الإسلامية المعاصرة للتنمية منظومة متكاملة، تتضمن مجمل القضايا التي تفرض نفسها على المجتمعات المحلية وعلى المنظومات العالمية، وهي تشمل العمران والبيئة بما فيها من تفرعات تتعلق بالزراعة وبحفظ الأرض من كلّ أشكال الإفساد، كما تحتوي وجوب التعليم والتطوير والعناية بذوي الاحتياجات الخاصة والسلامة العامة وغير ذلك من شؤون الحياة.
المعادلة الذهبية
ثمّة معادلة ذهبية في مقاربة التغيير والتطوير الفكري، وهي أنّ تربية أو إقناع شخص بالعمل بموجب حديث رسول الله صلى الله عليه سلم:«أوصيكم بتقوى الله، لا تعصوا ولا تغلوا، ولا تهدموا بيعة (كنيسة)، ولا تحرقوا نخلاً، ولا تحرقوا زرعاً، ولا تذبحوا بهيمة، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا صبياً ولا صغيراً ولا امرأةً، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم فى الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له»، هو أقصر الطرق لترسيخ المفاهيم الإنسانية، فمن يخاف الله في قطع شجرة سيكون أحرص الناس على الحياة البشرية.
أمام الدول العربية والإسلامية فرصة جديدة لاستنقاذ أفغانستان وتحويلها إلى نموذج مستقرّ متقدّم طارد للإرهاب، وهو ما يجب العمل على أساسه في قادمات الأيام، في المجالات السياسية والإنسانية والتنموية، في وجه المطامع الإيرانية وصراع الأفيال في الإقليم.