IMLebanon

قراءة في عُزوف تمام سلام عن الترشّح إلى الانتخابات النيابية العَتيدة

 

ثَمَّةَ مَن يَرى أنَّ دولةَ الرّئيس تمّام سلام يعملُ، عَبْرَ إعلانِهِ مُؤخَّرًا العزوفَ عن التّرشُّحِ إلى الانتخاباتِ النّيابيّةِ لسنة 2022، على إقفالِ «بيتٍ سياسيٍّ» لُبنانيٍّ، وتحديدًا، بيتًا بيروتيًّا سُنِيًّا عريقًا؛ له تاريخه المميّز وخصائصه وإمكانيّاته في مجالات الوجودِ الوَطَنِيِّ والقيادةِ السّياسيّةِ في لبنان.

 

إنّ االرّئيس تمّام سلام، هو أحدُ وَرَثَةِ ما يُعرف بـ»البيتِ السّياسي»، في مجالات الثّقافة السّياسيّة في لبنان؛ فهو ابنُ واحدٍ من أكثر البيوتات السّياسيّة عراقة، الذي تأسَّس، في مدينة بيروت، منذ منتصف القرن التّاسعِ عَشَر، على يَدِ جدّه، سليم علي سلام (١٨٦٨-١٩٣٨). وكان أنْ تابع صائب سلام (1905-2000)، أحد أبناء سليم سلام، منذُ مطلعِ أربعينات القرن العشرين وحتّى نهاية ثمانيناته، العملَ الوطنيَّ والسّياسيَّ في لبنان، إنطلاقًا من هذا «البيت». ولقد اشتُهِرَت للرئيس صائب سلام عدّةً شعارات وطنيّة في لبنان، مثل “لبنان واحد لا لبنانان”، “التّفهّم والتّفاهم”، “ولا غالب ولا مغلوب”؛ كان لها أن تترك أثرًا واضحًا وفاعلًا، طيلة مراحل مديدة من التّاريخ المعاصر للبلد، على كثير من مسارات الحياة السّياسيّة فيه.

 

اِنْتَقَلَت مَسؤوليَّةُ «بَيْتِ آل سَلام»، إلى تمّام سلام، الابنُ البِكرُ لِصائب سلام؛ فَخَلَفَ والده، بدايةً، منذُ سنة 1983 ولغايةِ سنة 2000، على رأسِ «جمعية المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»؛ وأسَّسَ، مِن ثمَّ، وَتَرَأَّسَ، «جمعيَّة كشَّافة المقاصد الإسلاميَّة» و»الدّفاع المدنيّ المقاصديّ»؛ كما جرى انتخابُهُ نائبًا في «المجلس النّيابيِّ اللّبنانيِّ»، للمرّة الأولى، سنة، 1996؛ ونال ثقةَ نوّاب الأُمَّةِ ليكونَ رئيسًا للحكومةِ اللّبنانيَّةِ (2014-2016). وقد شغل، الرّئيس تمّام سلام، سنة 2014، مع حكومتِهِ مُجْتَمِعَةً، إلى جانِبِ مَنْصِبِهِ رئيسًا للوزراءِ، مَنْصِبَ «رئيسِ الجمهوريّةِ اللّبنانيَّةِ»؛ جرّاء عدمَ تمكّنِ «المجلس النّيابيِّ اللّبناني» في حِينِهِ، مِن انتخاب ِرئيسٍ للجمهوريَّةِ، خَلَفًا للرّئيسِ السَّابقِ العِماد ميشال سُليمان.

 

ثمّة مأساةٌ تراجيديّةٌ يعيشُها النِّظامُ اللُّبنانيُّ؛ إذ يَنُصّ الدّستورُ اللّبنانيُّ، في البَنْدِ (ج)، مِن مقدِّمَتِهِ، على أنّ «لبنان جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة»؛ وَلَئِنْ كانَ هذا ما يّرِدُ في الدّستور اللّبناني، الذي هو، وِفاق العِلم والقانون، أساسُ قيامِ الدّولةِ والفَيْصَلُ في أحكامِها وقوانِينِها، فإنّ ثمّة في لبنان ما هو أَقْوى مِن الدّستور المُعتَمَد، وأشدّ فاعليّةً مِن جميعِ موادِهِ، وما تَحوِيهِ مِن بنودٍ وما يَصدُرُ بناءً عليها مِن مراسيم وقوانين، فضلًا عمّا يُعمَلُ بِهِ من أنظمة. فَلّئِن كان لبنان، رسميًّا، جمهوريّةً، فإنّ النّظام الفعليّ، المُتَحَكّمَ بأمور هذا البلد وشؤونِهِ، ينهضُ على أساسٍ عملانيّ مفاده أنّ لبنان، في كثيرٍ من أَوْجُهِهِ السّياسيّةِ، دولةٌ قائمةٌ على قِيّمٍ ثقافةٍ سياسيّةٍ  متوارثةٍ مِن نَسَقِ الوجودِ الاقطاعيّ ومفاهيمه؛ الذي عرفه لبنان منذُ القرنِ السّادس عشر. إنّه النّظامُ القائم على «عائلات» أو «بيوتات»، يتعايش بعضُها مع بعضِها الآخر، بِحُكْمِ علاقاتِ الجغرافيا المناطقيّةِ وتفاعُلِ المصالحِ المشتركةِ أو المُتباينةِ؛ ويكونُ «البيتُ السّياسيّ»، ضمنَ هذا السّياقِ العملانيّ، بِحُكْمِ قدراته الماديّةِ والاجتماعيّةِ والتّواصليّةِ، نائبًا عَمّن يَلُوُذ بِرِكابِهِ مِن ناسٍ. ويَشْهَدُ التَّاريخُ، أنَّ «البيوتَ السّياسيّةَ» في لبنان، تمكّنت، عبر توزّعاتها الطَّائفيّةِ والمذهبيّةِ والمناطقيّةِ، ومع تنوُّعِ العهودِ السّياسيّةِ وتَبَايُنِها في ما بَيْنَها، وضمنَ امتداداتِها الزّمنيّةِ حتَّى هذا الوقت الرّاهن، مِن أدارةِ عديدٍ غالبٍ مِن مجالاتِ الفاعليّةِ السّياسيّةِ للبلدِ؛ بما لم تستطع أنْ تنهض به، بمثل فعاليّتها، بنائيّاتٌ سياسيّةُ حزبيّةٌ أوفكريّةٌ أو حتّى نقابيّةٌ. والطّريف في أمر «الجمهوريّة اللّبنانيّة»، أنّ مفاهيم «البيوت السّياسيّة» هذه، شديدة الواقعيّة والعملانيّة في آن؛ إذ لا يَنْحَصِرُ أمرُ الملكيّة فيها، بانتماءٍ إلى نَسْلٍ مُعَيّنٍ؛ بل بكلّ مَن يقدر على أن يصير صاحب «بيت سياسيّ»؛ أكانت هذه القدرة ناتجة عن قوّة مالٍ أو سلاحٍ، أو بِفِعلِ علاقات خاصّة أو عامّة، أو أيّ مجال آخر. يُنْشِىءُ، صاحب «البيت السّياسيّ»، على هذا الأساس، «مملكته» أو «إقطاعه»؛ ويسهر، من ثمَّ، على تعزيزِ ما أنشأ؛ ناشطًا في الإفادة القصوى منه؛ كما يعمل، بعد كلِّ هذا، على توريثه.

 

يأتي قرارُ الرّئيس تمّام سلام، ابنُ «البيتِ السّياسيّ»، المُمْعِنُ في عراقتِهِ وفاعِلِيَّتِهِ الوطنيَّةِ والسّياسيّةِ، بالعزوفِ عن التّرشُّح إلى الانتخاباتِ النّيابيّةِ المقبلةِ، سنة 2022؛ في موازاة عددٍ كبيرٍ مِنَ المساعي اللاهِثَةِ والمحمومَةِ لِناسِ «البُيوتاتِ السّياسيّةِ» الأخرى في لبنان؛ العريقةِ منها كما المُحدَثَةِ، والتّليدَةِ كما الطّارِفَةِ، والصّلبَةِ كما الهَزيلَةِ، إلى ترشيحِ رؤساءِ هذه البيوتِ، أو أبناءَ لهم، أو مُقَرّبينَ مِن عائلاتِهم، أكانت قُربى مُصاهَرَةٍ أو نَسَبٍ أو حتَّى وَلاءٍ، إلى الانتخابات النّيابيّة المُقبلة في لبنان.

 

يَنْطَلِقُ قرارُ الرّئيس تمّام سلام، مِن عدّة نقاطِ أساسٍ وتأسيسٍ في آن؛ منها ما يتعلَّقُ بِوَعيِهِ الوطنيّ لاحترامِ الدّستورِ وأُسُسِ فاعليّتهِ الوطنيّةِ؛ ومنها ما يرتبطُ بمفهومه السّياسيٍّ للمرحلةِ الرّاهنةِ، التي يعيشها البلد. يَظْهَرُ مِن بيان الرّئيس تمّام سلام، العزوف عن التّرشّح، وبوضوحٍ لا لَبْسَ فيه، إدراكٌ موضوعيٌّ لطبيعةِ المسؤوليّات الوطنيّة والسّياسيّة والتّاريخيّة والدّستورِيّةِ الرّاهنة وأهميّتها؛ وإصرارٌ، مَبْنِيٌّ على هذا الإدراكِ، لِلْعَمَلِ الوَطَنِيِّ لِما يُمكن بناؤهُ مِن رُؤىً لمرحلةِ ما بعد هذه الانتخاباتِ النّيابيّة العتيدة.

 

يَنْهَضُ هذا البيانُ، للرّئيس تمّام سلام، بمثابة حَجَرِ أساسٍ، شديدِ الصّفاءِ في رؤيتِهِ، وَجَلِيِّ البيانِ في صِياغَتِهِ، بعيدًا عن أيِّ تَطوِيلٍ قد يعيقه عن الوصولِ إلى هدفه، أو أيِّ مسايرة أو بهلوانِيَّاتٍ لفظيّةٍ، يُمكن أن تُشَوّهَ جوهرَ فَهْمِهِ للبُعدَينِ، الوَطنِيِّ والسّياسيِّ في لبنان. ولَيْسَ مِن مُجانَبَةٍ لِلْحَقِّ والواقِعِ وللأهميّةِ الوطنيّةِ والضّرورةِ العمليّةِ، مِن اعتمادِ رؤيةِ هذا البيان، مُحَفِّزًا وَطَنِيًّا وسياسِيًّا لِنُهوضٍ وطنيٍّ وسياسيٍّ ديمقراطيٍّ. إنَّهُ النُّهوضُ الذي طالما سَعَت إليهِ نُخَبٌ مِن اللّبنانيين وناضَلَت في سبيله، ورأت فيهِ خلاصًا للبلدِ مِن كثيرٍ مِن مآسي العيشِ والسّياسةِ؛ التي ما أنفكَّ ناسُهُ يرزحون تحت فجائعها. واقع الحال، إنَّ جميعَ النّصوصِ الدُّستوريّةِ والتّشريعاتِ القانونيّةِ، ومعها البياناتُ السّياسيّةُ، الدَّاعيةُ جميعها، وفاق ما يَرِدُ في مقدِّمة الدّستور اللّبناني، إلى أنّ لبنان «جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة، تقوم على احترام الحريّات العامّة، وفي طليعتها حريّة الرّأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوقِ والواجباتِ بين جميعِ المُواطِنين دونَ تمايزٍ أو تفضيلٍ»؛ فَشِلَت، فَشَلًا ذَريعًا وفاضِحًا، في تقديمِ تفعيلٍ حقيقيٍّ لمضمون هذا النَّصِّ. ومن هنا، يبدو أنَّ بيان الرّئيس تمّام سلام، يَأتي في مسعىً شديد الأهميّة والدِّقّةِ، لتأمين ما يشكِّلُ منطلقًا لتفعيلٍ حقيقيٍّ لمضمون هذا النَّصِ من مقدِّمةِ الدُّستور اللُّبنانيِّ.

 

يَرتَكِزُ البَيانُ، بصورةٍ عمليّةٍ ومباشرةٍ، على ثماني نقاط؛ يُعَيِّنُ، الرّئيس تمّام سلام، مِن خلالِها، مفهومَه للمرحلةِ الرّاهنةِ ولمتطلّباتِها الوطنيّة؛ كما يُحَدِّدُ، تاليًا، رؤيتَهُ إلى فاعليّةِ وجودِ «البيتِ السّياسيِّ» في الزّمنِ الرّاهنِ. وهذه النِّقاط الثّماني هي:

 

1)الاستحقاقُ الدُّستوريُّ الكبير.

 

2)ما وَصَلَت إليهِ أوضاعُ البلادِ مِن تردٍّ وانهيار.

 

3)أهميَّةُ افساحِ المجالِ أمامَ تغييرٍ جدّيٍّ.

 

4)إتاحةُ الفرصةِ لِدَمٍ جديدٍ، وفِكْرٍ شابٍّ ونظيفٍ، يطمحُ إلى أهدافٍ وطنيَّةٍ صافيةٍ ونقيَّةٍ.

 

5)احترامُ مطالبِ الشَّعبِ الثَّائرِ والسَّاعي إلى التَّغيير.

 

6)يَسْتَحِقُّ الشَّعبُ أنْ يُعطى فرصةً ليتابع مسيرةَ بناءِ الوطنِ بأفكارٍ وأساليبٍ وممارساتٍ جديدةٍ وطَمُوحَةٍ.

 

7)البقاءُ الشّخصيُّ في قَلْبِ بيروتَ، والمساهمة في كلّ ما يؤدِّي إلى إعادةِ بناءِ الوطن.

 

8)الانطلاقُ مِن «وثيقة الوفاق الوطنيّ» و»اتّفاق الطّائف» و»الدّستور اللّبناني».

 

9)البقاءُ الشّخصيُّ في قَلْبِ بيروتَ، والمساهمة في كلّ ما يؤدِّي إلى إعادةِ بناءِ الوطن.

 

10)الانطلاقُ مِن «وثيقة الوفاق الوطنيّ» و»اتّفاق الطّائف» و»الدّستور اللّبناني».

 

يؤكِّد الرَّئيس تمَّام سلام، عبر هذه النِّقاط، عُمْقَ وَعيِهِ الوَطَنِيّ للدّستور اللّبنانيّ، باعتمادِهِ هذا الدُّستور منطلقًا لِبيانه؛ ويوضِّح، تاليًا، إدراكًه للوضعِ المأساويِّ الذي يُعانِيهِ البلدُ راهِنًا، كما يُشَدِّدُ على ضرورةِ العَمَلِ الجِدّيّ والرّصينِ المسؤولِ لِإِحداثِ تغييٍرٍ فِعلِيٍّ في مجرياتِ الأحداثِ، عن طريقِ تحقيقِ رؤىً شَبابيّةً نظيفةً وطنِيًّا وسياسيًّا؛ ويربط، أخيرًا، كلَّ هذا باحترامٍ لا بدَّ منه للمطالبِ الشّعبيّةِ الثّائرةِ والسّاعيةِ إلى التّغيير. ويوضِحُ، الرّئيس تمّام سلام، مِن جهةٍ أولى، أنَّ هذه الرّؤيا، التي يُقدِّمها للمسارين الوطنيِّ والسّياسيّ، إنّما تَنْبَثِقُ مِن حَقِّ الشّعبِ في لُبنان أنْ يعملَ وِفاقَ أفكارٍ وأساليبٍ وممارساتٍ جديدةٍ، تتناسَبُ وحقيقةِ طموحِهِ الوَطَنِيِّ؛ ومِن جهةٍ ثانيةٍ، فإنَّ الرّئيس تمّام سلام، يؤكِّدُ أنّه سيبقى عامِلاً في المجالَيْنِ الوَطَنِيِّ والسّياسيّ، ضمنَ ما يطرحه في بيانِ عُزُوفِهِ هذا، مِن رَأْيٍ ورُؤْيا؛ مُسْتَلْهِمًا ما يَرِدُ في ما تَوافَقَ عليهِ اللّبنانيًون في «وثيقة الوفاق الوطنيّ» و»اتّفاق الطّائف» و»الدّستور اللّبناني».

 

يُمْكِنُ أنْ يُفْهَمَ مِن هذا البيان للعزوف، يصدرُ عن دولة الرَّئيس تمّام سلام، وفي هذه المرحلةِ الحرجةِ والدّقيقةِ مِن التّاريخ المُعاصِرِ للُبنان، دعوةً واضحةً ومسؤولةً إلى تأكيدِ النّضجِ الرُّؤيويِّ الوطنيِّ والعمليِّ السّياسيِّ، لدى قطاعاتِ الشّعب كافَّةً؛ وضرورةَ قيامِ هذه القطاعات بالعمل المباشر على تفعيلِ آرائِها ورُؤاها؛ كما يؤكِّد البيانُ أنَّ ما في «وثيقة الوفاق الوطنيّ» و»اتّفاق الطّائف» و»الدّستور اللّبناني»، مَدامِيكٌ مَتينَةٌ وعَمَلِيَّةٌ لتحقيقِ هذه القطاعاتُ الشّعبيّةُ لِآرائِها ورؤاها؛ كما أنَّ هذا السعيَ إلى التّحقيقِ، لن يكونَ في غيابٍ لشخصِ تمَّام سلام، بل بحضوره الوطنيِّ والسِّياسيِّ في مدينته بيروت، واستمرار فاعليَّتِهِ فيها.

 

واقعُ الحالِ، لا يُمكنُ النَّظرُ في هذا البيانِ، لدولة الرّئيس تمّام سلام، إلاَّ مِن خِلالِ أنَّهُ دعوةٌ تحفيزيَّةٌ وطنِيَّةٌ رائدةٌ، تنطلقُ من رأس لبيتٍ سياسيٍّ عريقٍ، للتَّأكيدِ على انتهاء مرحلةٍ تقليديّةٍ من مفاهيمِ الموروث الثَّقافيِّ لزمن مضى؛ ودعوةٌ إلى مزيدٍ مِن النّضجِ الوطنيِّ والسِّياسيّ، بإطلاقِ العَنانِ للرُّؤيةِ الدِّيمقراطيّة قَوْلًا وعَمَلًا في لُبنان.