Site icon IMLebanon

تمّام سلام: للصبر حدود

الرئيس تمّام سلام… شاء له القدر أن يكون في موقع رئاسة الدولة… الدولة المريضة، المتفككة، المتعثرة، المكبلة بجملة من القيود، والمفخخ لها بجملة من المزالق والمطبات، والمحكومة قولا وفعلا، بخيوط الخارج ومطامعه ومطامحه ومؤامراته. أوقعه القدر حيث هو، وأوصدوا في وجهه المداخل والمخارج، ويكادون أن يقفلوا معها النوافذ، الصغيرة منها والكبيرة. يخيّره البعض ان ينتقي لنفسه واحداً من خيارين: الحكمة أو الكرامة، كما يطلب إليه البعض أن يقبع على كرسيه حبيسا مكبل اليدين، ممنوعا من الحركة ومن إمكانية اتخاذ القرار ومن اعتماد آلية ما لتصريف شؤون البلد، الكبير منها والصغير، حتى إذا ما تساهلوا معه، طلبوا إليه أن يرضخ لمطالب المشاكسين والمشاغبين وأن يحاور أولئك الذين يسعون إلى تسليم مقاليد البلاد إلى من يستغلهم ويحركم ويحميهم. لكن هؤلاء جميعا يجهلون على ما يبدو، مَن هو تمام سلام، الرجل الذي يبطن في شخصيته الحكيمة الصابرة، قوة وصلابة وقدرة على اتخاذ المواقف الجريئة والمقدامة والحريصة على شعاره في حكومته، حكومة المصلحة الوطنية.

لا يُحسد الرئيس سلام في الواقع على حالة الأسر التي يحاول المتآمرون وأصحاب الغايات الخبيثة الساعية بكل ما توفر لديها من أساليب التآمر والضغط والدفع باتجاه الوصول في وقت ما، في نهاية ما، إلى قلب المواقع والمواقف والموازين، ومعها ومن خلالها، قلب النظام السياسي القائم المرتكز إلى اتفاق الطائف والميثاق الوطني الناشئ من صلبه وأسسه وقواعده، من دون أن يخجل البعض من تحذيرهم للرئيس سلام، من اللجوء إلى الاستقالة من هذه الحكومة التي لم يعد لها من صفات الحكم والإمساك بمقاليد البلاد، حتى الملحّ منها والضروري، سوى الاسم وموقع رئاسة الدولة الذي يسوده الفراغ الكامل، وكان مفترضا في هذه الحكومة أن تملأ ما أمكنها وما تسمح لها الأوضاع بملء هذا الفراغ المريع، ولكن هناك من يوصد بوجهها وبوجه رئيسها خاصة، كل أبواب الحركة والعمل والإنتاج وكل نوافذ تصريف شؤون الناس اليومية والاجتماعية والحياتية، وها هو هذا الفريق الممسك بالأصفاد والمواقع، شديد السعادة بالمشكلة الإضافية التي أوجدتها ظروف هذه الأيام الحالكة، ووضعت الوطن كله في أتونها المشتعل: زبالة ووسخا وأمراضا ومشاهد مضرة بالنظر وبالصحة العامة وبالسياحة، رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه، وبسمعة لبنان، لؤلؤة المنطقة وسويسرا الشرق سابقا، وقد امتلأت صحف العالم ووسائل إعلامه المختلفة، بصور لا وجود لمثلها في أي بلد وبرئيسها بالذات، وصولا في ذلك إلى محاولة رمي الزبالة في محيط دارته، من دون أن تخفى الغايات الخبيثة الكامنة وراء مثل هذه التصرفات الوقحة والمتفلتة من أدنى درجات الوعي والمناقبية والملتصقة بأهداف وغايات مكشوفة بفاعليها والمخططين لها والمحرضين على ارتكابها.

أزمة حصلت في البلاد بأسبابها التي تغوص في عمر حكومات سابقة عديدة متعاقبة، تلكأت في إيجاد الحلول الجذرية للأزمة فأوصلتنا إلى هذه الحال المزرية، ولكن البعض يحاولون إلصاق أوزارها بالحكومة القائمة، متناسين تقصير وتلكؤ الحكومات السابقة، لأسباب معروفة ومكشوفة.

من المفترض أن نغوص في هذا المقال في الأوضاع السياسية الناتجة عن المواقف الشاذة المنطلقة منذ ما يزيد على العام من أزمة بل من كارثة حرمان البلاد من أن يكون لها رئيس للجمهورية يدير شؤونها وشجونها ويعيدها إلى مسيرة الحياة الطبيعية. من المفترض أن نقرع طبول الفزع والجزع لما آلت اليه أوضاع البلاد والعباد، ولكننا سنتجاوز ذلك وسنتركه إلى مئات المقالات التي حفلت وستحفل بها الصحف على مدى أشهر مقبلة، وسنكتفي بأن نوجه النظر والاهتمام والتأييد الكامل للرئيس سلام، مشيدين مجددا بوطنيته الصادقة وحكمته الأكيدة، وصبره الإستثنائي، ولكن هذه الإشادة هي من تحصيل الحاصل، وقد أجمع اللبنانيون عليها ورأوا فيها سفينة إنقاذ وخلاص مكنتهم حتى الآن، من تجاوز الكثير من المطبات والأخطار التي كان يفترض أن تلحق بهم بشكل دراماتيكي لو صادف وجود رئيس آخر في مقعد الرئاسة بوضعها المركّب القائم، من دون أن يتمتع بمزايا الرئيس سلام الذي يعالج أوضاع البلاد والرئاسة والتحديات والمشاكسات والزعرنات التي واجهته، في مجلس الوزراء وخارجه من هذا المنطلق، وهذه الأعصاب الاستثنائية المتسمة بفيض من الحكمة والرصانة والهدوء. ولكننا لن نتجاهل إلى جانب ذلك كله، أن تمام سلام بالنتيجة، إنسان، من لحم ودم وأعصاب، وأنه بشكل خاص، حريص على اتسامه بصفاته الوطنية المتأصلة فيه، وحريص على موقع رئاسة الوزراء وصلاحياته الدستورية والعرفية، وحريص جدا جدا على كرامته الشخصية التي يحاول بعض الأقزام أن يمسها من خلال الدفع به إلى الزوايا الصعبة، بحيث يبقى حيث هو، أسير الممارسات التآمرية المستوردة من الخارج، والتي يسعى بعضها إلى تلفيق واقع جديد ينقل الصراع المفترض والمختلق ما بين المذاهب الإسلامية إلى صراع ما بين السنة والمسيحيين توطئة إلى افتعال أزمة وطنية حادة لا وجود لها إلاّ في ساحات التآمر والاختلاق، وإلقاء المسؤولية على الآخرين مع فيض من النوايا السيئة والغايات الحافلة بالخبث، وإيجاد مزيد من العراقيل المعقدة في وجه الأوضاع الميثاقية والدستورية القائمة، توطئة لطرح هذا النظام القائم مجددا وتمديده على طاولة المفاوضات المفروضة والمختلقة، والوصول به إلى صيغة جديدة، تفرضها الظروف المصطنعة والضاغطة، ويستطيع الكثيرون من المطلعين وأهل التبصر والحكمة، أن يحددوا منذ الآن من سيكون المهزوم الأساسي فيها: المهزومون سيكونون أولئك الذين وضعوا أنفسهم ووُضِع بهم في موقع المواجهة وتلقّي الضربات الأولى، وأن هؤلاء، ومن خلال الممارسات الإنتحارية السابقة التي نعرفها عن «زعيمهم الأوحد»، سيجُرّون المسيحيين معهم إلى مآسٍ جديدة أين منها تلك المآسي التي مرت عليهم وعلى البلاد في أوقات قاتمة من تاريخ هذا البلد الذي أوصله «كبير المغامرين»، في وقت من الأوقات إلى جملة من الكوارث التي ما زالت البلاد عموما والمسيحيون خصوصا، يعانون منها أقسى أنواع المعاناة.

ونعود إلى الرئيس تمام سلام الذي سبق للسيد حسن نصرالله أن «حذره» قبل أيام من الاستقالة، نظرا لآثارها السيئة والخطيرة على واقع البلد ومستقبله، وكان كثيرون من حكماء وفضلاء هذا البلد قد حذروا من مواقف وسياسات سابقة وحالية، جمدت إنتخابات رئاسة الجمهورية وجمدت معها كل وسائل الحركة والحياة الطبيعية، وهؤلاء ما زالوا يطلقون الصوت عاليا بالتحذير المتكرر، لأن كل ما نعانيه اليوم من آلام وأحزان وطنية وسياسية واجتماعية، تبدأ خيوطه وتفاعلاته من هذه النقطة الأساسية والمفصلية، وعليه فإن التحذير الموجه إلى الرئيس سلام بهذا الخصوص، يرد عليه بالتحذير الذي أطلقه الناس منذ ما يزيد على العام، وهو تحذير يلغيه، كما تلغيه أية استجابة في أي وقت مقبل لإجراء الانتخابات الرئاسية بما يعيد البلاد إلى سيرها الدستوري الطبيعي وحركتها الخالية من المزالق والمطبات غير المتوقعة، ولئن كان آخرون لا يأبهون لأفعالهم وتصرفاتهم المضرة بهذا البلد، ولا تحركهم في وجه ذلك إلاّ مصالحهم وطموحاتهم الخاصة وغزواتهم في الداخل والخارج، فإننا نعيد في وجههم جميعا أن الرئيس سلام، هو شديد الانغماس في إطاراته الوطنية الحرّة وشديد التمسك بمزاياه الشخصية الكريمة والحكيمة والقادرة على الصبر والتحمل، ولكن… للصبر حدود، وللتحمل طاقة، مهما عظمت فهي بالنتيجة محدودة، وللكرامة الشخصية التي يحرص عليها الرئيس سلام دور كبير لديه، ودافع للفعل والحركة، شديد الأهمية، فإلى كل الذين يطالبونه بالامتناع عن الاستقالة وبينهم رؤساء دول وحكومات وزعماء محليون وإقليميون ودوليون، يُرد عليهم بالنتيجة القاطعة: للصبر حدود… خاصة بعد أن باتت تفوح في البلد كله روائح الزبالة والقاذورات، المادي منها والسياسي.