الحدث التركي أكبر من أن يكون محدوداً بدائرته المحلية، وهو أخطر تطوّر في الصراعات الإقليمية – الدولية المحتدمة في المنطقة، ويبقى قبل كل ذلك مؤشراً على جانب كبير من الأهمية، لحركة المواجهات المحلية والإقليمية المتداخلة، وامتداداتها في النسيج التركي، المتعددة الألوان والأصول والمذاهب.
لا يمكن فصل خلفيات ودوافع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا عن الخيارات الاستراتيجية السياسية التي يعتمدها زعيم «حزب العدالة والتنمية» منذ سنوات، وأعادت تركيا إلى الفضاء العربي، وأنعشت الروابط الدينية الإسلامية، التي تجمع بين الشعب التركي وشعوب بلدان المنطقة العربية والإسلامية الآسيوية.
ورغم العلاقات الاقتصادية والتجارية الناشطة بين أنقرة وطهران، والتي بلغ حجمها عشرات المليارات من الدولارات سنوياً، فقد سارت تركيا على خط سياسي متعارض مع السياسة الإيرانية في الإقليم، بل وفي أحيان كثيرة، كانت شريكاً في عمليات التصدّي للتمدّد الإيراني.
ورغم التحالفات السياسية والعسكرية الوثيقة التي تجمع بين أنقرة وواشنطن، ودور الأولى المؤثر إقليمياً في «حلف الناتو»، فإن الخلافات السياسية وما كشفته من تناقضات في التوجهات التركية ضد السياسات الأميركية في المنطقة، أصبحت علنية، وموضوع معالجات وتحليلات في الإعلام، خاصة بالنسبة لمقاربة الحرب في سوريا، والدعم الأميركي غير المحدود للفصائل الكردية والأحزاب التي تعمل على إنشاء «الدولة الكردية» في المناطقة الحدودية المتاخمة لكل من العراق وسوريا وتركيا وإيران.
يضاف إلى كل ذلك، بروز زعامة تركية طموحة يتمتع صاحبها بكاريزما قيادية مميزة، وبخطاب سياسي وطني وقومي وإسلامي، استطاع من خلاله، اقتحام الأسوار الغربية المصطنعة مع العالم العربي، واختراق حصار غزة، وملء الفراغ العربي الذي أغرى النظام الإيراني على التوغل في الجسد العربي، مما ساعد، في نظر كثيرين، على تحقيق بعض التوازن السياسي والبشري والعسكري بين الجانب العربي والدولة الإيرانية.
* * *
إذاً، بين الانتقاد الأميركي المتزايد لسياسات رجب طيب أردوغان، إلى القلق الإيراني المتنامي من تصاعد الدور التركي في الإقليم، خاصة بعد التقارب مع السعودية، والمصالحة مع روسيا وإسرائيل، والعمل على فتح صفحة جديدة مع مصر، إلى الانتشار الواسع للزعامة الأردوغانية في البلاد العربية والإسلامية، ثمة خيط خفيّ ودقيق ساهم في نسج خطوط الانقلاب، في قالب جمع بين ضباط ينتمون إلى أقليات متعددة في التركيبة التركية، ويُعادي معظمها النهج الإسلامي المعتدل الذي شق طريق التعاون مع الدول العربية والإسلامية، ووضع تركيا على خط المواجهة مع السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ، ومع التمدّد الإيراني المستمر في المنطقة العربية!
أصحاب هذا الرأي يذهبون أبعد من ذلك، حيث يستعرضون هويات وأصول ومذاهب قادة الانقلاب الفاشل، ويخلصون إلى النتائج التالية:
أبرز قادة الانقلاب: المستشار الأمني لأردوغان علي يازجي هو علوي، ومستشار رئيس الأركان محرم كوسا، وهو علوي أيضاً.
وكذلك حال قائدي سلاح البر وسلاح الجو، والضباط الذين تحرّكوا على رأس وحدات عسكرية لاحتلال بعض المراكز الرسمية في أنقرة واسطنبول، وخاصة التلفزيون الرسمي، الذي وقع بيد الانقلابيين لفترة ساعتين فقط ، حيث تبين أن معظمهم ينتمي إلى أصول آشورية وكلدانية وعلوية، وغيرها من الأقليات الأخرى.
وكان الشعار البرّاق الذي رفعه الانقلابيون: العمل على الدفاع عن العلمانية ضد «إجراءات الأسلمة للدولة»، التي يقودها أردوغان، ويخوض من أجلها معركة تعديل الدستور التركي الحالي.
وأصبح معروفاً أن المستشار محرم كوسا لعب دوراً رئيسياً في اعتقال رئيسه، رئيس الأركان خلوصي أكار، الضابط المسلم الذي عيّنه أردوغان مؤخراً لقيادة الجيش التركي، والذي رفض الخضوع لضغوط الانقلابيين، وتعليماتهم بإعطاء الأوامر للقطاعات العسكرية وسلاح الطيران بالتحرّك ضد الشرعية، بالإضافة إلى تصدي رئيس المخابرات هاقان فيدان، وهو من القريبين لأردوغان، للحركة الانقلابية عبر تحريك الوحدات الضاربة واستنفار أجهزة الأمن والشرطة لتطويق الانقلابيين في الشارع.
* * *
إن القراءة السياسية الأوّلية للحدث التركي، على ضوء المعطيات الخارجية والمعلومات الشخصية عن قادة الانقلاب الفاشل، تُشير إلى وجود نوايا مبيتة عند مخططي هذه الحركة، ليس لإسقاط الزعيم التركي رجب طيب أردوغان، وإبعاد حزبه عن السلطة وحسب، بل ولإغراق تركيا في أتون حرب أهلية داخلية، تعطل دورها الناشط الحالي، وتفكك عرى المجتمع التركي من إتنيات وقوميات وديانات ومذاهب، وإلحاق تركيا بدائرة البلدان المشتعلة في المنطقة والغارقة بدماء الفتن والصراعات المذهبية.
ولو قيّد لمخطط نشر الفوضى المدمرة في تركيا أن يبصر النور، لكان أخذ طريقه إلى الانتقال إلى دول الجوار العربي خاصة، ولا ندري إذا كانت إيران ستبقى بمنأى عن النيران المشتعلة في تركيا ودول المنطقة، خاصة بعد بروز حركات قومية تعتمد القوة أسلوباً للحصول على حقوقها السياسية، وفي مقدمتها ما يجري في منطقة الأحواز، وفي المناطق الكردية الإيرانية المتاخمة للحدود العراقية والسورية والتركية.
الفصل الأوّل من مسلسل الانقلاب التركي.. انتهى بسلام، وبأقل قدر من الخسائر!
فهل ثمّة فصولٌ أخرى؟!