ليس طارق عزيز، المسيحي العراقي المنتمي إلى حزب البعث والرجل المريض، وحده الذي توفّى في سجن عراقي عن سبعة وتسعين عاماً. توفّى أيضا ما كان ما يرمز إليه طارق عزيز في العراق الذي عرفناه والذي كان لا يزال فيه مكان لمواطن ينتمي إلى أقلّية معينة يستطيع أن يحتل موقعاً، ولو غير مؤثر، في السلطة.
كان هناك اصرار على الإنتقام من طارق عزيز. كان هناك اصرار على الإنتقام من كلّ ما يمثّله. الهدف واضح كلّ الوضوح. في ظل نظام الميليشيات الشيعية التي تحكم العراق، والتي تسيّرها ايران، لا صوت يعلو على صوت الإنتقام. إنّها سياسة الإنتقام من كلّ ما هو عربي في هذا البلد الذي كان إحدى ركائز النظام الإقليمي الذي نشهد حاليا فصلا أخيرا من عملية إنهياره.
لم يكن طارق عزيز مهمّاً في يوم من الأيّام. ففي عهد صدّام حسين، وقبله في عهد احمد حسن البكر الذي تميّزـ نسبياـ بنوع من العقلانية ترافقت مع فكرة محاولة بناء دولة ذات مؤسسات، كان طارق عزيز ذلك المواطن المسيحي الذي يستطيع، في دولة البعث، الوصول إلى موقع وزير للإعلام أو للخارجية وحتّى أن يكون نائباً لرئيس الوزراء. كان جزءاً من الديكور المستخدم لإعطاء صورة مغايرة للواقع عن نظام لم يتقن سوى سياسة واحدة، هي سياسة الإلغاء. كان يحسم بالإلغاء، أي بالقتل، كلّ خلاف مع الآخر.
لم يمتلك طارق عزيز يوماً صلاحيات كبيرة. بكلام أوضح لم يكن يوماً صاحب القرار أو حتّى صاحب قرار، عندما يتعلّق الأمر بقضايا ذات شأن. كان دائما في خدمة صدّام حسين. كان عليه أن يقول له ما يمكن أن يرضيه ويفرحه ويستجيب لرغباته. لم يمتلك يوما صلاحية الإعتراض أمام صدّام أو مناقشة أي موقف أو قرار يتخذه «السيّد الرئيس». اقتصر دوره على دور المسؤول الصغير الذي عليه تنفيذ اوامر الزعيم من دون أيّ نوع من الأسئلة.
لذلك، كانت كلّ التهم التي سيقت لطارق عزيز امام المحكمة التي مثل أمامها بعد الإحتلال الأميركي من النوع الذي لا علاقة له بالحقيقة والواقع. أكان ذلك بالنسبة إلى الأكراد أو بالنسبة إلى الأحزاب الدينية، على رأسها «حزب الدعوة»، الذي ينتمي اليه نوري المالكي ورئيس الوزراء الحالي الدكتور حيدر العبادي.
كان دور طارق عزيز محصوراً في استرضاء صدّام حسين. لم يكن يحقّ له الدخول في أي نقاش. لم يتجرّأ حتّى على التدخل في قضية تخص نجله الذي سُجن في عهد صدّام لأسباب مرتبطة بقضية تافهة اراد عبد حمود (السكرتير الشخصي لصدّام) تضخيمها لأسباب شخصية.
ثمّة ثلاثة احداث، بين أحداث كثيرة، تعطي فكرة عن طبيعة دور طارق عزيز إبان عهد صدّام.
الحدث الأول هو سكوته عن مغامرة غزو الكويت في العام 1990 من القرن الماضي. لم ينبس طارق عزيز، الذي كان وزيرا للخارجية، ببنت شفة لدى إعلان الرئيس العراقي وقتذاك أمام رفاقه في مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب عن إتخاذ القرار القاضي بالقيام بتلك المغامرة المجنونة في الكويت.
لم يكن طارق عزيز شيئا يذكر في حضرة صدّام أو أحد افراد العائلة مثل حسين كامل أو علي حسن المجيد أو عديّ أو قصيّ. لم يستفد صدّام من احتكاك طارق عزيز بالعالم الخارجي، وهو إحتكاك سمح له بإدراك النتائج التي يمكن أن تترتب على جريمة احتلال بلد جار مسالم مثل الكويت…
فضّل طارق عزيز الصمت دائما، حفاظا على حياته أوّلا. لم يكن لديه سوى الأخبار المفرحة ينقلها إلى صدّام. الدليل على ذلك الحدث الثاني الذي يعطي فكرة عن الرجل وموقعه في النظام. هذا الحدث رواه برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدّام الذي كان مديرا للإستخبارات حتّى العام 1983، ثمّ سفيرا لدى الأمم المتحدة في جنيف بين 1988 و 1998.
يقول برزان، الذي أعدم في العام 2007، أنّه رافق طارق عزيز إلى طهران في مهمّة تتعلّق بنقل رسالة من صدّام إلى الرئيس الإيراني وقتذاك هاشمي رفسنجاني. كان ذلك بعيد إحتلال الكويت وبدء المجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتحدة حشد قوات في الأراضي السعودية تمهيدا لعملية التحرير التي تمّت في شباط ـ فبراير 1991.
كانت رسالة صدّام إلى رفسنجاني طويلة. كانت دعوة إلى ايران من أجل الإنضمام إلى العراق في مواجهة «الشيطان الأكبر» الأميركي. كان صدّام حسين يمتلك ما يكفي من الغباء للإعتقاد أن ايران في حال عداء مع أميركا، كما أنّها في وارد انقاذ نظامه أو الدخول في مواجهة مع «الشيطان الأكبر». ردّ رفسنجاني على الرسالة الطويلة برسالة أطول منها تضمّنت مزايدات على الموقف العراقي وعلى العبارات التي استخدمها صدّام. لكنّه ختم رسالته الشفهية بعبارة «…أما شرف مواجهة الشيطان الأكبر في الكويت، فهو شرف عظيم نتركه لكم».
استنادا إلى برزان التكريتي، نقل طارق عزيز كلّ ما ورد من أخبار سارّة في رسالة رفسنجاني، باستثناء العبارة الأخيرة التي كانت أهمّ ما فيها، بل لبّها. لم يتجرّأ على نقل الحقيقة. اضطر برزان إلى طلب موعد من صدّام، قبيل عودته إلى جنيف، ليقول له إن هناك عبارة، ربّما نسي «ابو زياد»، أي طارق عزيز، نقلها لكم!
كان الحدث الثالث في كانون الثاني ـ يناير 1991، عندما إلتقى طارق عزيز بصفة كونه وزيراً للخارجية نظيره الأميركي جيمس بايكر في جنيف. في الجلسة التي انعقدت بين وفدين عراقي وأميركي، سلّم بايكر الوزير العراقي رسالة خطّية تدعو إلى الإنسحاب من الكويت من دون شروط، وإلّا أعادت اميركا العراق إلى «العصر الحجري». إكتفى طارق عزيز بقراءة الرسالة. إعتذر عن عدم قدرته على تسليمها إلى «رئيسه». بقيت الرسالة على الطاولة التي جلس إليها الوفدان. لا تزال الرسالة، إلى الآن، محفوظة في فندق «إنتركوتيننتال».
هذه ثلاثة أمثلة عن ثلاثة أحداث تعطي فكرة عن دور طارق عزيز في العراق. كان الدور أقرب إلى اللا دور من أي شيء آخر. على الرغم من ذلك، كان هناك اصرار لدى الذين تولوا السلطة في العراق على الإنتقام منه بطريقة بشعة تنمّ عن رغبة في القضاء على كلّ ما له علاقة بالتسامح والعيش المشترك الذي عمره مئات السنين في بلد متعدد الطوائف والمذاهب والقوميات. كان الإنتقام إنتقاماً من مسيحي عراقي ذنبه أنّه كان بعثياً خدم في بلاط صدّام حسين.
لم يكن ترك طارق عزيز يموت في السجن، من دون عناية صحيّة، مجرّد إنتقام من البعثي الذي حافظ على حدّ أدنى من الوفاء لصدّام حسين الذي لا يمكن بأي شكل الدفاع عن إجرامه. كان ذلك تعبيرا عن أن «داعش» لا يمثّل التطرّف لدى السنّة فقط، بل هناك دواعش شيعية أيضا خلقت حاضنة للفكر الديني المتطرف بغض النظر عن المذهب الذي ينادي به هذا الفكر أو يدّعي الدفاع عنه.
لم يكن طارق عزيز رجلاً مثالياً، خصوصا أنّه سعى إلى تلميع النظام العراقي في الغرب. كان مواطناً مسيحياً عراقياً آمن في مرحلة معيّنة بالفكر البعثي وخدم نظاماً قمعياً كان يفترض أن يكون علمانيا. كان يمثّل حالة توفّر بعض الطمأنينة للأقليات الدينية العراقية لا أكثر. انتهى بطريقة تؤكّد أنه لم يعد من مكان في العراق سوى للأحزاب المذهبية التي لا تؤمن سوى بالانتقام، خصوصاً من السنّة ومن المسيحيين. مثل هذه الأحزاب التي يمثّلها نوري المالكي أو حيدر العبادي لا تبني دولاً حديثة بمقدار ما أنّها تؤسس لحروب دينية ومذهبية مستمرّة لم تعد محصورة بالعراق بكلّ أسف.
رحم الله طارق عزيز الذي عاش فقيراً، والذي وجد في الأردن من هو على استعداد لاستقبال جثمانه ودفنه بطريقة لائقة تؤكد أنه لا يزال في المنطقة من يمتلك بعضاً من نخوة وحدّاً أدنى من الأخلاق العربية الأصيلة…