IMLebanon

التاتار بين روسيا وتركيا

مرة ثانية يجد الشعب التاتاري في شبه جزيرة القرم نفسه محشوراً بين فكي كماشة، أحد طرفيها الكرملين.

فالصراع الروسي الأوكراني آدى الى ضم القرم في عام 2014 الى روسيا؛ وما آن استقر الوضع الجديد حتى بدأت الأجراءات العقابية الروسية تنهال على التاتار لوقوفهم الى جانب أوكرانيا ولمطالبتهم بالعودة الى الوحدة معها. من هذه الأجراءات حل «المجلس المحلي» التاتاري بعد اتهامه بأنه منظمة إرهابية واعتقال رئيسه علمي عمروف. ومنها كذلك اقتحام مساجد التاتار بحجة أنها تأوي معارضين للسلطة الجديدة، واعتقال المئات ونقلهم الى مواقع مجهولة في روسيا. واستناداً الى الاحصاءات الاوكرانية الرسمية فإن 20 ألف تاتاري من سكان القرم اضطروا للهجرة الى أوكرانيا بعد ضمها الى روسيا.

جدّدت هذه الأحداث الصور المرعبة عن تهجير 230 ألفاً من التاتار في عهد الرئيس السوفياتي الأسبق المارشال جوزف ستالين الى مجاهل سيبيريا. يومها أمر ستالين بتلك العملية انتقاماً من التاتار لأن بعضهم وقف الى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. صحيح أن بعضهم أيد الألمان، أما على خلفية إجبارهم على التعاون بعد احتلال المانيا لشبه الجزيرة أو على خلفية التعاون لتحريرهم من الاحتلال السوفياتي. مع ذلك فإن بعضهم الآخر انضم الى الجيش السوفياتي الأحمر وقاتل الألمان الى جانبه وقتل الألوف منهم.

غير أن الملفات السرية عن تلك الحقبة والتي أميط اللثام عنها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تكشف عن أسباب أخرى لعملية التهجير الجماعي التي أمر بها ستالين.

كان الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين يخطط لاجتياح تركيا من أجل استرجاع المناطق التي خسرتها روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى. ولتسهيل عملية الاجتياح قام بأمرين أساسيين. الأمر الأول هو تحريض الأقليات غير الاسلامية في شمال شرقي البلاد ضد السلطة التركية. أما الأمر الثاني فهو اقتلاع التاتار من شبه جزيرة القرم لأنهم مسلمون ولأنهم يتحدرون من أصول تركية. وكان ستالين يعتقد بأنهم سوف يقفون الى جانب تركيا ويعرقلون تقدم القوات السوفياتية.

أدت العملية الأولى إلى المذابح التي استهدفت الأقليات والتي لا تزال آثارها السلبية مستمرة حتى اليوم. وأدت العملية الثانية الى القضاء على مئات الآلاف من التاتار الذين نقلوا في عام 1944 في عربات السكك الحديد المخصصة لنقل المواشي الى مجاهل سيبيريا حيث قضى معظمهم من البرد والجوع. ولم يعد منهم الى القرم بعد مرور 45 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية أي في عام 1989 سوى قلة صغيرة من الذين قدر الله لهم أن يبقوا على قيد الحياة.

وفي الوقت الذي ترتفع فيه الدعوات لاعتبار ما تعرضت له الأقليات من تهجير ومجازر جماعية على أنه يرتفع الى مستوى الإبادة الجماعية، تتلاشى هذه الدعوات تماماً عندما يتعلّق الأمر بمأساة التاتار.

ولكن عندما انهار الاتحاد السوفياتي وتفتتت الامبراطورية تنفّس التاتار في شبه جزيرة القرم الصعداء. واعتقدوا بأن الكابوس الروسي قد زال نهائياً، فدخلوا في شراكة مواطنة متكافئة مع أوكرانيا الى أن انفجر الصراع العسكري الأخير فوجدوا أنفسهم ضحية مرة جديدة.

ولعل المرة الأولى التي اجتاحت فيها روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها اليها كانت في عام 1783. كانت القرم في ذلك الوقت دولة تعرف باسم «خانة القرم». إلا أن قدرها أنها وقعت بين فكي كماشة دولتين كبيرتين كانتا في حالة حرب وتوسع هما روسيا من جهة وتركيا من جهة ثانية. وهو ما حدث مرة ثانية خلال الحرب العالمية الثانية. فوجد تاتار القرم أنفسهم بين فكي كماشة جديدة هي روسيا من جهة وألمانيا من جهة ثانية. واليوم يعانون من كماشة ثالثة أحد طرفيها روسيا وطرفها الثاني أوكرانيا.

وبقدر ما تضغط روسيا من خلال الإجراءات القمعية التي تعبّر عن عدم الثقة بولاء التاتار ورفضهم الخضوع لسلطة الكرملين الجديدة (منذ عام 2014)، تتودّد أوكرانيا اليهم وتحسن معاملة المهاجرين منهم وتدعم قياداتهم السياسية الوطنية التي أكدت ولاءها للوحدة مع أوكرانيا. لقد جمعت المحنة بين التاتار والأوكرانيين، ووحّدهم العدو المشترك.. إلا أنهم عاجزون عن تغيير الأمر الواقع الذي يفرضه الكرملين عليهم بقوة السلاح.

لم يعترف المجتمع الدولي ( وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي) بضم روسيا للقرم. إلا أن عدم الاعتراف لا يغير من الواقع شيئاً. وهو أن عملية تهجير القيادات التاتارية مستمرة. وعملية تذويب السكان مستمرة أيضاً.

يشكّل التاتار 12 بالمائة من سكان شبه جزيرة القرم. إلا أن هذه النسبة معرضة للتناقص بسبب التهجير من جهة، وبسبب تدفق الروس وتوطينهم في شبه الجزيرة من جهة ثانية. ومن هنا فإن التغيير ليس سياسياً فقط، ولكنه ديموغرافي أيضاً. وهو تغيير يفرض وقائع جديدة في معادلات القوى في منطقة تقع في نقطة التقاء حادة بين الشرق والغرب.