قُتلت برصاصة طائشة في القلب
لم تنم تاتيانا البارحة في البيت. لم تُقبّل والدتها المريضة كارول في جبينها ولم تغرق بين أضلعها وتقول لها: “غنجيني شوي”. ولم تسأل والدها شوقي: “تعشيت يا بيي؟”. آخر ما قالته له في اتصال قبل أقل من ساعة من قتلها برصاصة طاشت وحطت في قلب قلبها: مبسوطة كتير يا بيي… كانت تاتيانا واكيم (24 عاماً) “مبسوطة” وتستحق الحياة… كانت تستحقّ حياة أحلى… حياة لو كانت في غابة لكانت أفضل مئة مرة من الحياة في دولة بلا “حياء” ولا قانون ولا عدالة.
لم تعدّ تاتيانا واكيم البارحة الى بيتها ولن تعود لأنها ضحية أخرى من ضحايا السلاح المتفلت في بلدٍ قتلها ألف مرة قبل أن تقضي عليها رصاصة “أخوت” مجرم غار على زوجته من “مجهول” فأطلق العنان لمسدسه فأتتها رصاصة واحدة في قلب القلب… رصاصة خرقت قلبها وأصابت شظاياها أسرة العنصر في بلدية الجديدة- السد- البوشرية شوقي واكيم. هي شابة مليئة بالأحلام وبالحب. ولدت عام 1997 في سد البوشرية وكانت، الى يوم مماتها، لا تزال فيها. صورة كبيرة لها عُلّقت على حبلٍ سميك بين منزلها ومنزل جارها الشاب أنطوني الذي قتله قبل فترة وباء كورونا. شابٌ وشابة في صورتين كبيرتين علقتا في أقل من شهر واحد في مبنى واحد. شاب وشابة إنتهت أحلامهما ومفاجآتهما وانتهت معهما كل مفاجآت “المرات الأولى” التي لا تزول إلا بانتهاء الحياة.
أشرطة بيضاء على شكل ورود تضعها نسوة الحيّ على درج البيت. هو عرسها اليوم. ووالدُها وعد أن يكون “أحلى عرس”. فهي ابنته الوحيدة التي أتت بعد صبيين إيليو وجورج، وهي كانت نبض ذاك البيت المتواضع، “المعجوقة” دائماً بكل تفاصيله، المليئة بشغف حبّ الحياة، التي لم يقدر أن يفوز عليها كل البؤس الذي يعيشه اللبناني، وكأنها أرادت أن تتمرد على كل الوجع الذي تركه فيها صدى إنفجار المرفأ وانتحار المعاون أول شربل فرح أمام المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وعرق “الختياريي” أمام محطات الوقود وصرخات ويليام نون باسمِ شقيقه جو… كانت صبيّة مليئة بالحبّ لكل الناس تضع صور المتألمين وتصلي لهم… لم تعرف تاتيانا أنها ستكون الحالة التالية التي ستُبكي بدورها الكثيرين. يا لهذه الحياة التي بيد مجرم أن ينهيها ويضع لها نقطة على آخر السطر.
قبل ما فلّ…اشتقتلك
أمام البيت، تحت الصورة مباشرة، شاب ينظر إليها حيناً والى السماء أحياناً ويهز رأسه بحركة واحدة، الى فوق وفوق، غير مبالٍ بكل شيء آخر. شابٌ يحمل على منكبيه وفي القلب كل وجع اللحظة. هو سيرج خطيبها الذي غنّت له، ومعه، قبل رحيلها بساعات قليلة: “وحياة عيونك قلتلك… ما فيي فلّ… كيف بدي فلّ… وقبل ما فل اشتقتلك”. الفيديو انتشر لها وهي تغني وهو بقربها. وها هو الآن يعيش صدمة العمر. هي ماتت بين يديه. كانت تغني له وحده. وهو يضحك لها وحدها. كان يرى العمر بعينيها وكانت ترى فيه الحماية والحب والمستقبل. نقترب منه. ماذا نقول له؟ نقدم له التعازي؟ ترتجف الكلمات في الحناجر. لا كلمات تشفي وتعزي. نسأله عنها. نسأله عن آخر لحظات له معها.
فيجيب: كان مطعم “الشير” في بطحا الذي قررنا أن نتناول الطعام فيه مليئاً بالناس، يغص بأكثر من مئة إنسان، وأتت رصاصة، رصاصة واحدة، لتستقرّ في قلبها فسقطت بين ذراعيه. لم يعِ ماذا حصل. لم يرها تتألم، تصرخ، تبكي، بل رآها جثة هامدة بعد أن كانت قبل ثوانٍ تضجّ حياةً. ثمة رصاصة استقرّت في قلبها فأردتها على الفور. ينظر مجدداً الى السماء. ينظر نحو صورتها ويكرر هزّ رأسه بحركة تؤلم الناظر. شبانٌ كثيرون يحيطون به فيأبى أن يتكئ على أحد. “فعمره راح وماذا قد ينفع بعد؟”. حزين، تعب، منهك وغاضب كثيراً ويردد: “إذا بيكون الله أمنت بإسمو سألاحقه ما دام الدم يجري في عروقي. أعدها. أعدك تاتيانا، وعد شرف، وحياة عيونك، ألا أدع من قتلك يرتاح”. هما كانا ينويان الزواج قريباً “surprise” في يوم عيد ميلادها في 18 كانون الأول. هذا ما تعاهدا عليه. وكانا يستعدان له. لكنها رحلت. هي لم تخلّ يوماً بوعدٍ فلماذا رحلت وحيدة الآن؟ يتمتم سيرج بذلك ويقول: رحلت بسلام. لم تتألم. الرصاصة قتلتها فوراً. يا له من مجرم. يا له من إجرام. يا لقدرها. يا لقدري. يا لهذه الحياة، حياة جهنم، التي سأعيشها من بعدها”.
اليوم عرسها
نتركه مع حبيبته. نتركه مع تاتيانا واقفاً على الرصيف. نتركه مع حركته العفوية وهو ينظر الى السماء. يا لحزنِ هذا الشاب.
النسوة المتشحات بالأسود والأبيض ما زلن يعلّقن الأشرطة البيضاء. الدار مليء بالمعزين الذين ينظرون بعيونٍ تائهة في كل الإتجاهات ولا يفهمون حتى اللحظة كيف تهدر حياة صبيّة مليئة بالحياة في لحظة. أما الأب المفجوع فيجلس على كرسيه وبيده صورتها. وهو بدوره يقبلها بين حين وآخر ثم يعود وينظر الى السماء علّه يراها ثم يعود وينظر الى درج البيت علّها تنزل منه وتأتي الى أحضانه. شوقي واكيم يعرفه كل الحيّ. هو موظف في البلدية ويلبي احتياجات السكان ويعيش، منذ سكن في المكان، بهدوء. زوجته (شقيقة أرزة الشدياق) مريضة من زمان. وابنتهما الوحيدة “قلب” البيت ورئته ونبضه. هي أبت أن تتركه لحظة يوم دخل المستشفى منذ مدة قصيرة. كانت يده وكتفه وعينه وقلبه وعمره. وقبل وفاتها بساعة اتصلت به وقالت له: I love you papou. إستغرب كيف تركت كل من حولها لتقول له أحبك. وكأنها أرادت أن تودعه. وكأن القلب له حدس يُنبئه بخطر ما داهم. قال لها: أحبك بابي. “انبسطي”. فردت: انا مبسوطة كتير. يُخبر ذلك قبل أن ينفجر غضباً بقوله: قتلولي ياها. قتلولي عمري. نحن ما منعرفو وما بيعرفنا. فلماذا قتلها؟ بنت أول عمرا 24 سنة أخذ روحها وأنا أعده بأن آخذ روحه. هيدي حياة قلبي. هو، يقولون، “زلمة” أحد النافذين. لا أعرف إذا كان ذلك حقيقة. لا أعرف شيئاً بعد”.
رصاص مجنون
القاتل هو فؤاد صياح، الرجل الذي يظن نفسه “قبضاي”، قيل انه تدخل لفضّ خلاف كان يجري في بهو المطعم فأطلق الرصاص وأرداها عن طريق الخطأ. قد يكون غار على زوجته نادية (كما تردد) فأطلق الرصاص ترهيباً وقد يكون قد أطلق رصاصتين لفضّ مشكل، لكنه في الحالتين مجرم يحمل سلاحاً ويتباهى به. ومثله أمثلة كثيرة. فكم من شخص، صغير وكبير، إمرأة ورجل، قضوا بسلاح متفلت. البارحة، ضجّت بعلبك بالسلاح إحتفاء بقدوم صهاريج المازوت الإيراني. وقبله ماتت الطفلة تايونا في منيارة. وقبل ذلك أردى هذا النوع من السلاح المتفلت بأيدي مجرمين حقيقيين أماً لتسعة أطفال… وقبل حين “لعلع” الرصاص في منطقة الزعيترية الفنار لخلاف بين عائلتين بعد “خطيفة” جرت… ما هذا القتل السهل في دولة متهالكة متهاوية عوراء؟ فهل نصيبنا أن نظلّ نعدّ ضحايا هذا النوع من القتل وتظلّ البيوت تتشح بالسواد لأن مجرماً مجنوناً أراد تفجير “مرضه” المكبوت بسلاح متفلت في الحزن وفي الفرح؟
رقدت تاتيانا البارحة وأول البارحة في المستشفى في جونية. واليوم ستدفن. اليوم ستمرّ جنب البيت وترقص في نعشها الأبيض. وسيرقص خطيبها كما الطير المذبوح. وسيغني لها “اشتقتلك… قبل ما تفلي وبعد ما فليتِ… وسأظلّ طوال العمر أشتقلك”. سيُفتح باب النعش وسيلقي آخر نظرة عليها. وسيمضي العمر بعدها مختلفاً.
ليل أول البارحة رآها والدها في مستشفى سيدة لبنان، لكن بلا نبض، كانت باردة جداً. قبّلها في يديها وقدميها ورمشيها. بكى فوق جثتها كثيراً. ركع وصلى وهو ممسك بيدها. ناداها كثيراً ولم تجب. إنها أول مرة لا تجيب فيها. “راحت راحت أخذوها مني”. شقيقها إيليو يذرف هو ايضاً الدمع الغزير: “يا ريت أنا ومش إنتي يا أختي… يمكن كنت احتملت أكثر منك”. تصرخ والدتها الملقاة على فراشها من الداخل “دخيلكم بنتي… بدي بنتي… بدي تاتيانا… يا الله يا الله”. فيصرخ جورج وهو متكئ على الحيط: “آخ يا أختي آخ”.
وصل أحدهم فصرخ الاب المفجوع: خسرنا يا حبيب تاتيانا… راحت… فيحاول أحدهم تهدأته بالقول: هي عصفورة في الجنة”.
تاتيانا العصفورة قد انتقلت على الأرجح من جهنم التي نعيش الى جنّة يسوع لكن، كم من تاتيانا علينا أن نبكي بعد وبعد في بلد مفتوح على جهنم؟ كم علينا أن نطلب من الدولة الرأفة بنا والإمساك بمن يطلقون الرصاص حين يشاؤون ومتى يشاؤون؟ أيّ جهنم هذه التي نعيش؟
اليوم عرس تاتيانا واكيم. هي رحلت الى مكان أكيد أفضل اللهمّ الصبر الى أهلها ومن يعيشون القهر ومن سيعيشونه ما دمنا في غابة لا في دولة.