“ترِند” الـ”تاتو” بين الهَوَس والنَدَم والرفض والتأييد
المواضيع المثيرة للجدل لا تنتهي هذه الأيام. لكن هاكم واحداً بصيغة سؤال بعيداً عن الأعطاب السياسية – الاقتصادية الماسكة بخناق البلد: هل أنتَ/أنتِ مع التاتو أو ضدّه؟ ويأتي سيل الإجابات: «جمال وفنّ بحدّ ذاته»؛ «سخيف هدفه لفت الأنظار»؛ «عُقد نفسية لا أكثر»؛ «مازوشية وحب إيذاء الذات»؛ «ظاهرة مقيتة ومثيرة للاشمئزاز»؛ «تشويه لصورة الخالق» و»حرية فردية لا تعني إلا صاحبها». آراء كثيرة ووجهات نظر أكثر. وحابل الديني والطبي يختلط بنابل الفني والشخصي. أهي مجرّد موضة؟ ثمة ما هو أبعد.
قصّتنا مع الأوشام، نحن وأسلافنا الآدميون، تعود إلى ما قبل العصر الحجري الحديث. أي إلى ما لا يقل عن 5000 سنة خلت. موروث شعبي وثقافي، إن شئت، بأبعاد مختلفة آثاره تمتدّ من جبال الأنديز مروراً بمصر القديمة والصين وصولاً إلى ألاسكا وما قبلها وبعدها. أما الاستخدامات عبر العصور، فشملت الشعوذة والتزيّن كما التفاخر والتشافي. أغلب الظن أن «الموضة» راحت تنتشر باضطراد في ديارنا خلال العقود الثلاثة الأخيرة كإحدى الصيحات المستوردة من هناك… من بلاد الغرب. فهل صحيح أن الوشم يدلّ على اضطراب الصحة النفسية لصاحبه؟ كيف يبرّر الشباب اللجوء إليه؟ وما رأي علم النفس والطب والدين في كل ذلك؟
لا مشكلة… إلّا إذا
نبدأ مع الاختصاصية في علم النفس، الدكتورة كارول سعادة، التي تنطلق في حديث لـ»نداء الوطن» من قِدَم ظاهرة الأوشام بأبعادها الاجتماعية والنفسية. فالوشم يرتبط ببعض المعتقدات عند الإنسان ويتحوّل إلى وسيلة لتخليد الذكريات أو مراحل معيّنة من الحياة ليخلق صاحبه في جسده ذاكرة لها. وفي حين لا يمكن ربطه بشكل مباشر بأي أمراض أو مشاكل نفسية، إلّا أن الوشم يمكن أن يرتبط بواحدة منها أو أكثر بصورة غير مباشرة. كيف؟ «في حال تَرافق الوشم مع أنماط سلوكية معيّنة في التفكير أو مع مشاكل محدّدة في الشخصية، يخلق ذلك تداعيات سلبية على حياة الشخص الاجتماعية والعائلية والعاطفية والمادية وغيرها. وهنا يصبح جزءاً من شخصية الفرد التي غالباً ما تتّصف بالحدّية»، كما تشرح سعادة. وهكذا تبدأ المشكلة بالظهور من خلال التهوّر والتقلّبات المزاجية والاكتئاب والسوداوية فتتحوّل أشكال الوشم إلى رمز لتلك السوداوية.
في بعض الأحيان، يصبح الوشم إدماناً أشبه بـ»فشة خلق» لصاحبه كلّما انتابه غضب أو شعور ما بعدم الارتياح. كما يمكن أن يمسي مصدر لذة بوصفه وسيلة لـ»تجريح» الجسد أو تعذيبه. «هنا نتكلم عن مشاكل على مستوى الشخصية يمكن أن تشكّل دلالة على حالة مرضية»، تضيف سعادة، «من دون أن ننسى أن الوشم قد يصبح من منظار صاحبه غطاء يخفي من خلاله تراجع ثقته بنفسه ليوحي للمجتمع بعكس ذلك».
نسأل عن الانتشار السريع لظاهرة التاتو، فتعزو سعادة الأسباب إلى ازدياد منسوب الحرية الشخصية والتعبير عن الذات، إضافة إلى تقبّل المجتمع لها أكثر فأكثر ما سمح للفرد بإظهارها بوضوح. التحرّر على عدة مستويات، مرده الى تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والرغبة في تقليد المشاهير من نجوم الرياضة وممثّلين وفنانين، عوامل ساهمت مجتمعة في ترسيخ ذلك «الترِند» في صفوف المراهقين وطلاب الجامعات.
ما بعد الـ100…
إلى مثل حسّي ننتقل. نور، ابنة الـ23 عاماً، تخبرنا عن الأوشام المنتشرة بسخاء فوق أنحاء جسدها: «أذكر جيّداً كيف تعرّضت للضرب من أختي حين قمت برسم أول وشم على عنقي بعمر الثالثة عشرة. كانت فكرة جديدة و»صار وشم يجرّ وشماً» كأنه إدمان، وها أنا اليوم أتمتّع بأكثر من مئة وشم على جسدي». نسألها من أين جاءت بالفكرة أصلاً فتجيب أنها اعتادت منذ سن التاسعة على شطب يدها كلما شعرت بالضيق، فراحت لاحقاً تستعيض عن شطب نفسها بدقّ الأوشام كونها تمنحها شعوراً مماثلاً… التلذّذ بألم الإبرة.
لكن ماذا عن نظرة المجتمع؟ «هناك من يشتمني وينظر إليّ بازدراء، وهناك من يُعجب بي كثيراً. النظرة السلبية لا تؤثّر بي لكني أفرح بإعجاب البعض بمظهري وبشخصيتي». أما عن علاقاتها العاطفية، فتشير إلى أنها تبحث دوماً عن شريك يشبهها إذ لا يمكنها تقبّل «شخص عادي»، والدليل أن حبيبها مهووس هو الآخر بالأوشام. نسألها ما العمل في ما لو ندمت يوماً على مظهرها، فتؤكد أن لا مكان للندم في حياتها إذ هي تنظر إلى جسدها باعتباره لوحة فنية. «لن أتوقف عند العدد 100»، كما تتوجه نور لمنتقديها خاتمة «أنا شخص مؤمن جدّاً لكن جسدي ملك لي. الجسم باقٍ على الأرض والله يحاسب أرواحنا لا أجسادنا».
مخلوق فضائي؟
إياد، الشاب الملقّب بـEDD، يروي لنا حكايته أيضاً. هو الذي سبق وزرع 44 وشماً على جسده كان أوّلها كلمة «ثورة» مع قلب، لكنه سرعان ما قام بتغطيته لما سبّبه من مشاكل مع الجهات الأمنية. بدأت الفكرة تراوده منذ عمر الحادية عشرة ليواجَه برفض حادّ من أهله: «واحد متلي مفروض يكون شَكلو أرتب بِنَظَرن. أنا ابن مهندس ومن عيلة مثقّفة سياسياً»، على حد قوله. لكن رغم ذلك، EDD أدمن اللعبة حيث يعترف اليوم أن لا شيء يريحه أكثر من الشعور بوخز تلك الإبرة.
نغوص بعض الشيء في طفولته، فنكتشف أنه كان يعبّر عن نفسه من خلال وضع رسومات على جدران غرفته. وقد قام لاحقاً بنقل كافة تلك الرسومات إلى… جسده. «أنا أصغر إخوتي وكان يُمنع عليّ التعبير عن مطلق أمر إلا إذا كان مفيداً، فاعتدت الصمت وصرت أعبّر بطرق مختلفة»، كما يقول. فالهدف بالنسبة إليه ليس لفت الأنظار، إذ هو يتكلم دون التنبّه كثيراً إلى ردود الأفعال. لكنه لا يخفي أن نظرة المجتمع تزعجه ويختصرها بـ»كأني مخلوق غريب نازل من الفضاء».
ثمة شعور بالندم يرافقه مع ذلك. فبعض الرسوم تذكّره بفترات من حياته يريد محوها من ذاكرته، لكن لا حل سوى بالتعايش مع الواقع. أما علاقاته فهي محطّ معاناة مرتبطة بذلك الواقع: «مشكلتنا الجهل وليس الدين. أنهيت علاقة جميلة بسبب رفض أهل الفتاة لي… كان أهون يعلقوا لي مشنقتي قبل ما يفوتوني على بيتن».
الجسد هيكل الله
نذهب إلى مرجع ديني مسيحي لنستفسر عن موقف الكنيسة حيال الموضوع فنسمع منه ما يلي: «ليس في الكتاب المقدّس ما يشير فعلياً إلى الأوشام إلّا أننا نجد في سفر اللاويين في العهد القديم الآية التالية: ولا تجرحوا أجسادكم لميت، وكتابة وسم لا تجعلوا فيكم: أنا الرب (لا 28:19)». أما خلفية «النهي» في الآية المذكورة فتعود إلى أن الناس كانوا يجرحون قديماً أجسادهم حزناً على فقدان شخص قريب، في حين كان ثمة أشخاص يقومون برسم الأوشام على الأجساد تصويراً لآلهة الأصنام التي يعبدون. صحيح أن العهد الجديد لم يتطرق إلى الأمر، لكن يجب ألا ننسى أن أجسادنا هي هيكل الله وليست ملكنا، كما يضيف المرجع.
حلال وحرام… ولا إكراه
الوشم محرّم في الدين الإسلامي وهو كبيرة من الكبائر لأن الرسول لعن الواشم والمستوشم، يقول لنا أحد مشايخ أهل السنّة. فالوشم محرّم على الرجال والنساء في أي مكان من الجسد ولا يجوز لمؤمن أو مؤمنة تعاطي ذلك. وأضاف: «الله أبدع فينا هذا الجسد من أجل أن يبقى جماله فيه… ويجب المحافظة عليه لأن الإنسان لا يعلم ما هي حاجة هذا الجسد بالتحديد». لكنه أردف أن الوشم حلال في حالتين: إذا أتى علاجاً لأحد الأمراض أو أمكنت إزالته بسهولة، مثل الحنّة، بعيداً عن وخز الإبر وظهور الدم.
رأي ديني ثالث زوّدنا به باحث متخصّص بالتنظيم الديني لدى طائفة الموحّدين الدروز. بحسب الباحث، يمكن فهم موقف الدروز الديني من الوشم في كتابات مرجعيّاتهم الروحيّة من خلال مرتكزين رئيسيّين: الأول، اعتبار أن الله وهب الإنسان الجسد آلة شريفة لخدمة روحه العاقلة، وحرّم عليه كل ما يضرّ بصحته ويشوّه جماله، ومنها الوشم. أما الثاني، اعتبار ترك الزينة بأنواعها كافة إحدى الفرائض الدينية التي يجب التقيّد بها صيانة لطبيعة الإنسان العاقلة وذلك بالاستناد إلى «وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ (الرعد: 13). فالزينة، برأيهم، تحيله عن رعاية جوهره الباقي، أي روحه العاقلة، وتوجّه اهتمامه وسعيه لتجميل مظهره، أي جسده الفاني. لذلك، يُعتبر الوشم عندهم محرّماً دينياً. مع ذلك، «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» (البقرة: 256)، غير أنه يُحسن بالإنسان العاقل رعاية روحه وجسده وصيانتهما من كل ما يفسدهما.
إحذروا الأمراض
الموقف الديني إذاً واضح لا لبس فيه. لكن نعود إلى الرأي الطبي البحت. فالحبر والمواد المستخدمة في صناعة الأوشام كما إبر الوخز، كما تشير مصادر طبّية متعدّدة، قد تؤدّي إلى إصابة صاحب الوشم بالتهاب الكبد الفيروسي أو فيروس نقص المناعة المكتسبة في حال عدم تنظيف المعدات المستخدمة جيّداً. وهو ما يفسّر منع صاحب الوشم من التبرّع بالدم خشية نقله الفيروسات أو البكتيريا في حالات مماثلة. هذا ناهيك عن مخاوف من تسبّب الألوان المستعملة في صناعة الحبر بالأمراض السرطانية، وخاصة الجلدية منها. ويعود ذلك إلى احتواء الألوان على مركّبات «آزو» التي تتحلل تحت أشعّة الشمس إلى مواد كيميائية مسرطنة.
قبل أشهر، أصدر الاتحاد الأوروبي قانوناً يمنع اعتماد الكثير من المواد الداخلة في تركيبة الألوان المستخدمة في الأوشام – وعددها 4000 مكوّن كيميائي – ما أثار زوبعة من الاعتراضات. أما في اليابان، مثلاً، فالتاتو ما زال ممنوعاً قانوناً ويعرّض أصحابه لمضايقات بالجملة. بالطبع، الحرية الفردية ليست – ولا يجب أن تكون – موضع نقاش طالما هي لا تتجاوز حدود حرية الآخرين. والجدل مستمرّ على قدم وساق في أوروبا واليابان، ليس إلّا. فهل من يتوقّع أن يُحسم عندنا في أي وقت قريب؟