“حزب الله” واقفاً على “إجر ونصّ”
بعد أربعة أيام على حادث الطيونة الذي حصل في 14 تشرين الأول 2021، اتّهم الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله “القوات اللبنانية” بأنهم يحضِّرون لحرب أهلية وحمّلهم المسؤولية وهدّدهم بأنّ لديه مئة ألف مقاتل وطلب منهم ومن رئيسهم سمير جعجع أن “اقعدوا عاقلين ولا تُخطئوا الحساب وتأدَّبوا…”. بعد أربعة أعوام على هذا الكلام يظهر وكأنّ من تبقّى من قادة “حزب الله” يواجهون التهديد نفسه “إقعدوا عاقلين ولا تُخطئوا الحساب”.
المئة ألف مقاتل الذين هدّد بهم السيد نصرالله حزب “القوات اللبنانية”، خاضوا معارك استنزاف في حرب تموز 2006، انخرط الحزب في الحرب في سوريا منذ العام 2011، وخاض حرب المساندة لحركة “حماس” في 8 تشرين الأول 2023، وواجه خطر القضاء عليه منذ اغتيال قادته وأمينه العام وتفجيرات أجهزة “البيجر” ابتداء من 17 أيلول الماضي.
منذ إطلاق ماكينات “الحزب” العسكرية والأمنية في العام 1982، عمل على بناء قدراته وتكوّنت لديه قناعة راسخة بأنّه بات قوة عظمى يمكنه أن يغيّر من خلالها وجه الشرق الأوسط ويفتح الطريق بين بيروت وطهران، ويعيد صياغة تاريخ المنطقة ويتجاوز الأنظمة القائمة إلى وحدة الساحات، وأن يهدّد الترسانة العسكرية الأميركية. واعتقد “الحزب” أنّ بإمكانه أن يقتحم الحدود الجنوبية ويحتلّ مناطق الجليل ويبدأ حرب تحرير فلسطين وطرد اليهود منها. ولكنّ حسابات “الحزب” كانت خاطئة إلى الحدّ الذي جعله يواجه حرباً قاسية تكاد تكون قاتلة.
إتفاق التخلّي عن السلاح
لو لم يكن الحزب يواجه مأزقاً عسكرياً وسياسياً نتيجة الضربات القوية التي تعرّض لها لما كان وافق على اتفاق وقف إطلاق النار الذي ينصّ بوضوح على تطبيق القرارات 1559 و1680 و1701 الصادرة عن مجلس الأمن وترسم طريق استعادة السيادة اللبنانية من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية وإعادة تكوين السلطة، والتسليم بدور الجيش اللبناني وحده أمنياً مع القوى الشرعية الأخرى، ونزع سلاح “الحزب” وتفكيك منشآته العسكرية ومنع إعادة تسليحه، وإقفال معابره البرية غير الشرعية على الحدود مع سوريا. وهو نتيجة هذا الضعف الذي عاناه لم يكن يستطيع رفض أن تكون الولايات المتحدة وصية على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وأن تكون لإسرائيل حرية التدخل في لبنان عسكرياً عندما تجد أنّ أمنها مهدّد.
منذ موافقة الحكومة اللبنانية على هذا الإتفاق تصرف “الحزب” وكأنّه يحاول تجاوز مندرجاته وشراء الوقت للحفاظ على ما تبقّى له من هيكلية عسكرية ومن جهوزية ومن أسلحة ومنشآت بانتظار أن يعيد بناءها من خلال الدعم الذي يمكن أن يأتيه من طهران. ولكنه قبل أن يلتقط أنفاسه جاءته ضربة موجعة من سوريا بعد سيطرة قوات “هيئة تحرير الشام” التي تدعمها تركيا على حلب.
كلفة الحرب في حلب
شارك “حزب الله” مع تنظيمات شيعية تابعة لإيران بفعالية في معركة طرد القوات المعارضة من حلب بعد معارك استمرت منذ عام 2012 حتى كانون الأول 2016. وتحمّل عبء تفاقم الصراع المذهبي بين السنة والشيعة منذ معركة القصير عام 2013، على الحدود مع لبنان في القلمون السوري. نتيجة ذلك التاريخ الصعب كان من السهل على قوى المعارضة هذه أن تشمت بـ”الحزب” وأن تؤيِّد العدو الإسرائيلي في حربه ضدّه. ومنذ انخرط “الحزب” في الحرب السورية عام 2011 كان من السهل عليه نقل قواته من لبنان للمشاركة في القتال من دون اعتراض إسرائيل، إلّا في بعض حالات كشف نقله أسلحة استراتيجية إلى لبنان. وكان من السهل عليه أيضاً أن يقيم منشآت داخل سوريا بموافقة النظام. ولكن منذ اندلاع حرب المساندة مع إسرائيل تغيّرت المعادلة. انكشفت كل مواقع الحزب في لبنان وسوريا أمام الغارات الإسرائيلية. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تتمكّن قوات “هيئة تحرير الشام” من السيطرة على حلب والاستمرار في توسيع مناطق السيطرة على حساب “الحزب” الذي وقف عاجزاً مع النظام السوري عن تعديل موازين القوى، في ما يبدو أنّه محاولة لتغيير الواقع السوري وتقليص سلطة النظام وصولاً ربّما إلى تقسيم سوريا وقطع الطريق بين طهران وبيروت.
تحرير القضاء من سلطة “الحزب”
كل هذه التطورات جعلت الحزب يقف على “إجر ونصّ” قياساً على التهديدات التي كان يطلقها أمينه العام ضد إسرائيل وجيشها. ولذلك على “الحزب” أن يستخلص العبر وأن “يقعُد عاقل” وينصاع لمندرجات اتفاق وقف إطلاق النار وإطلاق يد الجيش اللبناني والقوى الشرعية في استعادة دورها، وتنازله بالتالي عن فرض سيطرته على السلطة. وهذا التنازل لا يكون على المستوى العسكري فقط. وبالتالي إن المطلوب تفكيك منشآت الحزب العسكرية وهذا صحيح ومسلّم به. ولكن المطلوب أيضاً فكفكة سيطرة “الحزب” على القرار السياسي وعلى السلطة القضائية. فـ”الحزب” لا يزال يعتبر أنّه فوق المحاسبة وفوق القانون ويمكنه أن يصدر “أحكامه الشرعية” ويطبقها على معارضيه، منذ قرار اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى الاعتداء على الزميل داود رمّال. وهذا الأمر لا يمكن أن يبقى على عاتق “الحزب” بل يجب انتزاعه منه لأنّه لن يسلّم به طوعاً. وهو لا ينفصل عن مسألة نزع السلاح. ولذلك لا يمكن بعد اليوم انتظار أن يسلّم الحزب المتّهمين بالقيام بأعمال الاغتيالات أو الاعتداءات لأنّ هذه المسألة تتعلّق بسيادة الدولة التي لا يمكن تجزئتها. وبالتالي يجب تغيير مشهد تهديد مسؤول أمن “الحزب” الحاج وفيق صفا مثلاً بقبع القاضي طارق البيطار المحقّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت.