Site icon IMLebanon

الوجدانات اللبنانية الموزّعة بين فائض الاستقواء وفائض الانحلال واليأس

 

استثارة العصبيات واستعادة خطوط التماس هدم لما تبقّى من هيكل دولتيّ

 

 

أحرجت استعادة خطوط التماس ذاكرة اللبنانيين، والمسيحيون من بينهم، وزجّتهم في أتون الخوف من العودة الى الحروب الطائفية، تماما كما أحرجتها قرارات متسرّعة باستسهال استخدام الشارع في سياق الإعتراض على أداء المحقق العدلي القاضي طارق البيطار.

 

وإذا كان الإعتراض هذا مشروعا نتيجة تراكم معطيات من دفاتر التحقيق في تفجير المرفأ، وخصوصا من إفادة مستجدة لأحد الموقوفين تتهم حزب الله مباشرة بنيترات الأمونيوم، إدخالا وتهريبا وتفجيرا، فإن اللجوء الى الشارع الذي يقابله حكما شارعا مضاد، يُشبه في مكان ما تلك الإفادة المتفجّرة بمفاعيلها وإرهاصاتها السياسية قبل الأمنية. إذ ما الفرق بين قرار ظنّي في قضية المرفأ يعتقد الحزب أنه تفجير للسلم الأهلي، وقرار ظني بإستخدام الشارع على أخطاره المذهبية، وبحجز مجلس الوزراء، وبأخذ اللبنانيين رهينة، في انتظار تنفيذ قرار خلع القاضي؟ المفاعيل المتخيّلة للقرار الظني المشكو منه، رغم عدم صدوره بعد، هي نفسها المفاعيل المتخيّلة من استثارة العصبيات الطائفية نتيجة عدم الرغبة في الركون إلى المؤسسات في سياق الإعتراض على التحقيق العدلي.

 

كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون واضحا في لحظة التصدي، ضربا على الطاولة، للمطالعة الاتهامية التي قدّمها وزير الثقافة القاضي محمد مرتضى والتي خرجت عن لياقات التخاطب لما حملت من وعيد وتهديد غير مسبوق في إجتماع رسمي للحكومة. «الشارع يقابله شارع»، وأحد لا يرغب في استعادة الاقتتال الأهلي، سوى ذلك الذي يحضّر نصره الإنتخابي المبين على دماء وأشلاء.

 

يهدد الاحتكام الى الشارع بالسلاح الظاهر عند كل خلاف سياسي، بهدم ما بقي من هيكل مؤسستي للدولة، ويمعن في تغريب المسيحيين تحديدا عن دولتهم المتخيلة، تلك التي يرونها ملجأهم الوحيد في الصعاب والملمّات.

 

إعتاد الوجدان المسيحي على الدولة، ظالمة كانت أم مظلومة. لم يتغرّب يوما عنها، رغم كل الظلم الذي أنزلته به بعد الطائف. إبتعد في بعض لحظات الضعف لكنه لم يسقطها، بل ظلت قبلته السياسية الوحيدة والمبتغى. لا يفوّت فرصة لتحديث الأمل بعودتها اليه، وهو ما حصل تحديدا في العام 2005، من غير أن تُكتب له الإستدامة.

 

إفادة مستجدة لأحد الموقوفين تتهم حزب الله مباشرة بنيترات الأمونيوم

 

لكن الوجدانات اللبنانية الأخرى ليست كلها في الدولة الحاضنة. هي موزّعة ومشتتة بين فائض الإستقواء، وفائض الرهان على الخارج، وفائض التظلّم، وفائض الوقوف على الأطلال، وفائض الإنحلال واليأس نتيجة الخيارات الخاطئة.

 

في كل هذه الفوائض تكاد الدولة تنعدم، بل تبحر في دفعها الى التحلل، إما لغرض تأسيسي تكريسا لقوة ناشئة تكاد تتفلّت من عقالها، وإما ليأس من الحفاظ على مكتسبات طائفية خُيّل أن الطائف حجزها بإسم مذهب بعينه.

 

ومشكلة الطائف بعض أهله:

 

أ-هؤلاء الذين يصرون على تصويره للمسيحيين أنه انتصار له عليهم وانتقام من عهود المارونية السياسية،

 

ب-وأولئك الذين يعتبرونه أُسقط عليهم في لحظة ضعف إقليمي نتيجة «تجرّع سم» الحرب العراقية – الإيرانية نهاية الثمانينات، فكرّس غلبة المشروع السعودي على المشروع الإيراني. لذا لا مفرّ من تغييره تدريجا إنعكاسا للتوازن الإقليمي الجديد، مكرّس الغلبة الإمبراطورية.

 

أتى المنحى الذي تعمّد الثنائي الشيعي إظهاره عظيما في مقارعته المحقق العدلي، ليزيد الإستياء المسيحي إستياء على إستياء. لذا ما كان لهذا الوجدان سوى أن يظهّر فطرياً رفضه هدم ما تبقى من الهيكل الدولتي، والإتيان على آخر آمال قيامة الدولة.

 

مفهوم تماما أن تحمل حركة «أمل» على موقف التيار الوطني الحر من إستعادة المتاريس وخطوط التماس، المُنكر والمنهي عنه في الوجدان المسيحي، نتيجة ما بينهما من نتوءات وتفاوت في المقاربة الدولتية. لكن ما ليس مفهوما أو صعباً تفهّمه، هذا الإنسلاخ الذي بدا عليه جمهور حزب الله من موقف التيار. هل كانت قيادة الحزب تنتظر أن يدير التيار الظهر الى المعول الذي يعمل حفرا في الدولة؟ هل كانت تتوقّع غير ذلك كي تترك بعض جمهورها يتفنن في تخوين جبران باسيل وتصويره ساعيا خلف رضى أميركي؟ هي إختبرته، عن قرب وحقّ، في جلسات وعيد السفير الأميركية يوم خيّرته بين العزل والـpop star، وبين التفاهم والعقوبات على ماغنيتسكي لمزيد من التنكيل والتشويه. حينها إختار بلا تردد التفاهم على الفتنة، وفضّل أن يحمل العبء الكبير عليه وعلى عائلته الصغيرة كما على التيار، رغم كل الوعود بفتح عواصم القرار أمامه وتنصيبه زعيما مسيحيا أزليا ورئيسا قادما لا ريب.

 

يصبح، والحال هذه، من الضرورة بمكان أن تستعيد ذاكرة قيادة الحزب وقائع من جلسات الوعيد الأميركي، وهي بالتأكيد على دراية كاملة بها، وأن تعيد من تجنّى من جمهورها الى جادة الصواب!