قد يكون مستغرباً إجراء أي مقاربة للعلاقات البينية المميزة بين ثنائي «امل» و»حزب الله»، إلى درجة تثير الإستخفاف بأي حديث عن خلاف بينهما. فقد أظهرت الصورة النمطية التي نُسجت منذ عقدين من الزمن، انّ هناك حلفاً متيناً أوحت به نظرية «الجهاد المقدس». إلّا انّ ذلك لم يخف انّهما ليسا حزباً واحداً، وانّ ما بينهما من خلافات قد عاد ليطل بقرنه مجدداً قبيل أحداث الطيونة وفيها وبعدها، وهذه بعض الدلائل والمؤشرات.
لا تنفع العودة التاريخية الى تاريخ وحجم النزاع الذي كان قائماً بين حركة «أفواج المقاومة اللبنانية» «امل» و»حزب الله» في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، بما فيها المحطات الدموية التي سُمّيت بـ «حرب الاخوة». فقد توزعت على اكثر من منطقة لبنانية في بيروت وضاحيتها الجنوبية، امتداداً الى الساحات الجنوبية. والعودة الى تلك المرحلة تقتضي التوقف عند الشرارة الاولى في آذار من العام 1988 في الضاحية الجنوبية، والتي استمرت على مدى عامين تقريباً، فتوزعت بين مناطق منها، وبيروت والجنوب واقليم التفاح خصوصاً. ويُذكر منها مواجهات نيسان ايضاً بهدف السيطرة على مناطق مختلفة. وبقي ذلك قائماً ولو بنحو متقطع، الى حين التوصل الى تفاهم إيراني ـ سوري، لا يمكن ان ينساه أحد قياديي الحركة، عندما عاد بذاكرته 42 عاماً الى الوراء، ليتحدث عن «تفاهم 9 تشرين الثاني 1990»، وهو ما شكّل اعلاناً عن وقف الحرب بين «الشقيقين».
وعندما دخل المسؤول العتيق في تفاصيل تلك المرحلة، اشار بوضوح الى عملية انتقال منظّمة من كوادر الحركة الى الحزب الصاعد، بعد مرور 18 سنة على تأسيسه في العام 1982، على شكل مجموعات تعمل بعيداً من المظاهر العلنية. وهو ما احتسبته الحركة تدخّلاً في شؤونها الداخلية، واللعب في ظلّ موجة من النزاع الداخلي التقليدي بين قياداتها وكوادرها. فالحركة التي أُنشئت عام 1974 على يد الإمام موسى الصدر وفريق من رجال الدين والعلمانيين المقرّبين، ورفعت شعار «حركة المحرومين»، لا يمكن ان يثير أي خلاف مهم بين أبناء الطائفة، ولاسيما انّه ترجم معاناتهم في حياتهم اليومية، وزاد من نسبة الالتفاف الكبير حول المؤسس، الى درجة ليس من الصعب الخروج من تحت عباءته. فخاضوا مواجهة مزدوجة مع العدو الاسرائيلي وبعض مؤسسات الدولة المقصّرة، التي تجاهلت إنماء مناطق واسعة من جنوب لبنان.
واللافت عند مقاربة هذه المرحلة، انّ الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، هو أحد الذين غادروا الحركة عام 1982 من موقعه منذ العام 1979 كمسؤول سياسي في البقاع وعضو في المكتب السياسي، وخرجت معه مجموعة كبيرة من المسؤولين والكوادر، شكّلوا نواة الحزب الجديد. وكان ذلك إثر خلافات وُصفت بأنّها «جوهرية» مع القيادة، عند مقاربتهما لطريقة مواجهة التطورات الناجمة عن الاجتياح الاسرائيلي.
وبعيداً من هذه التفاصيل، فقد أرست القيادة المستقرة للرئيس نبيه بري للحركة منذ انتخابه رئيساً لها بلا منازع، ومن بعده للسيد نصرالله الذي أمسك بالموقع الاول للحزب قبل انتخابه اميناً عاماً له، نوعاً من الإستقرار النادر في العلاقات بين الطرفين. ونجحا معاً في عبور كثير من الاستحقاقات الحزبية والسياسية، التي كان من الصعب مواجهتها، فتنازل الرجلان بعضهما لبعض، وخصوصاً في المرحلة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأعطيا نموذجاً لثنائي حديدي لا يهتز بسهولة ومهما كانت قوة الضربات الخارجية والداخلية.
إلّا انّ ذلك لا ينفي كما ظهر في السنوات الأخيرة الماضية، من بوادر خلافات، تمكّن الطرفان من تجاوزها دون ان يكون لها أي تأثير على علاقتهما. حتى انّ خلافاتهما عام 2016، عندما نجح «حزب الله» في إيصال العماد ميشال عون الى قصر بعبدا خلافاً لإرادة بري، لم ينجح نصرالله في ترتيب العلاقات بين حليفيه، فنظّم العلاقات بين بعبدا و»حليف الحليف»، الى ان توالت الهزّات وتعاظمت الخلافات في المرحلة الاخيرة لألف سبب وسبب.
وعليه، فقد نضحت التطورات في العامين الماضيين بتوجّهات مختلفة للحزب والحركة في الكثير من القضايا، ولا مجال لذكرها. وإن بقيت تحت سقف التضامن بينهما، فإنّ الأحداث المتسارعة أحيت الحديث عن مثل هذه الخلافات بشكل لافت، رفعت من نسبتها إبتعاد الحركة ورئيسها الى حدّ النأي بالنفس عن الحرب السورية، وهو ما تسبب بشرخ واسع مع القيادة السورية، بدا يتظهر فور استعادة النظام السوري سيطرته على البلاد وبدء مرحلة الحسابات التي بدأها للفرز بين حلفائه، فوضع بري وحركته خارج لائحة الحلفاء، ومعه قيادات اخرى ابرزها رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، وقيادات اخرى من تلك التي كانت على علاقة مميزة مع آل الاسد طوال ثلاثة عقود.
على هذه الخلفيات يُتداول في كثير من الصالونات السياسية والديبلوماسية، روايات عدة، ابرزها بقرب المحاسبة على ابواب الإنتخابات النيابية المقبلة، في ظل حديث عن استهداف مشترك لكل من جنبلاط وبري، من دون ان ينال هذا الطرح حتى اليوم رضا وترحيباً من جانب «حزب الله». فهو ما زال على تحالفه المعلن مع الحركة، رغم حجم التباينات في كثير من المحطات السياسية منذ بداية العهد والى اليوم. وهو ما ترجمته جلسات مجلس النواب الاخيرة عند البت ببعض القوانين، وفي مقاربة المسؤولين اللبنانيين لبعض الملفات الكبرى المطروحة.
وكذلك، تبين الفارق واضحاً في مقاربة بري المرحّب بالموقف الاميركي لمدّ لبنان بالغاز المصري والكهرباء الاردنية، وصولاً الى مهمة رئيس الوفد الاميركي الجديد عاموس هوكشتاين، الذي قدّر له بري ولبلاده، قرارهما بالسعي الى ترسيم الحدود، وبكل ما يؤدي الى مواجهة أزمة الطاقة، فيما الحزب ما زال في كل ادبياته مصراً على توصيف هوكشتاين بـ «اليهودي» الذي يحمل «هوية اميركية»، متجاهلاً او متناسياً انّه كان من أبرز من وضع «اتفاق الاطار» الذي أعلن عنه بري قبل عام و21 يوماً، والذي أعاد لبنان الى طاولة المفاوضات غير المباشرة حول الترسيم مع «اسرائيل»، كما جاء في الإتفاق، في ضيافة مقر القوات الدولية وبمساهمة الوسيط الاميركي المسهّل لها.
وإلى هذه العناوين التي ظهرت من خلالها الرؤية المختلفة للحركة والحزب، لا تُحصى الملفات التي تقع في هذه الخانة، وخصوصاً عندما يتصل الامر بالأحلاف الانتخابية. فالتقارب بين الحزب و»التيار الوطني الحر» يوازيه تناغم ملموس ومرئي بين الحركة و»القوات اللبنانية»، تُرجم منذ فترة في محطات تشريعية مختلفة، قبل دخول البلاد مدار الانتخابات النيابية. كما بالنسبة الى قضايا إدارية ومالية اخرى، ليس اقلها الخلاف حول دور ومهمات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فلكل منهما رأيه في شخصه ودوره.
وبناءً عليه، عاد الحديث عن بوادر هذه الخلافات، وهو ما بدأ يظهر على هامش «واقعة الطيونة». فحركة «امل» التي كسب سلاحها «شرعية سلاح المقاومة» في أحداث الطيونة، تراجعت في ادبياتها السياسية عن اتهام «القوات»، ومضى الحزب بها وصولاً الى التشجيع على رفع الدعوى القضائية. وأقفل بري ابواب مجلس النواب على تداعياتها، ومضى الحزب في مواقفه التصعيدية، الى درجة لم يعد يُقاس مداها، وإن كان وزراء «امل» عبّروا عن النيّة بالعودة الى إحياء جلسات مجلس الوزراء، إن دعا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اليها، فإنّ وزراء الحزب على صمتهم وشروطهم، بإقفال ملف قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار قبل العودة الى هذه الجلسات. وعليه، يُطرح عدد من الاسئلة عمّا حصل في الطيونة ومحيطها الخميس الماضي، ومنها إن كانت قد لامست تردداتها التفاهم بين الثنائي الشيعي، قبل الحديث عن ثنائيات وأطراف أخرى.