Site icon IMLebanon

«التيار» وغياب لبنان والمسيحيّين من الشرق


في الحديث الشريف «أول ما بلغنا من كلام النبوّة: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت»…عندما يتحدّث السياسي يتوقّع السامع أن يتحدّث «على قدّو»، ولا نريد أن نتحدّث هنا عن «التيار العوني» ولا عن ديمقراطيّة «التزكية»، كلّ هذا لا يعنينا في هذا الهامش، لكن استوقفنا بالأمس بعض من كلام «لا يجوز التغاضي عنه لأنّه كلام يمسّ بالتاريخيْن، تاريخ المسيحيين في الشرق، وتاريخ المسحيّين في لبنان…

بالأمس قال جبران باسيل في احتفالية تتويجه رئيساً بالتزكية رئيساً للتيّار العوني:»إن غبت أيها «التيار» غاب المسيحيون من الشرق، إن غبت ايها «التيار» غاب لبنان»، وهنا علينا أن نتساءل: كيف استطاع باسيل أن يقول هذا الكلام؟ وكيف استطاع ربط تاريخ لبنان ذي الستة آلاف عاماً بغياب التيّار؟ وكيف يربط النائب باسيل الوجود المسيحي في هذا الشرق وهذا الوجود عمره من عمر رسالة السيّد المسيح ـ عليه السلام ـ لأنّ هذا الشرق هو أرض هذه الرسالة، ومهبطها ووحيها، وأصلها وفصلها ومنه انتشرت إلى سائر بقاع الدنيا..؟!

لا يجوز أن يمرّ هذا الكلام من دون مواجهة مبالغته واستفزازه ومنافاته لكونه كلام سياسي، إذ هو كلام بلغ حدّ الهرطقة على كلّ المستويات، حتى كبار بطاركة المسيحيين، بل «مار مارون» نفسه لم يصدر عنه هكذا كلام، فالنائب باسيل يمتد وجوده كمواطن مسيحي في هذا البلد منذ العام 1970، كما يمتدّ وجود مؤسس هذا التيار النائب ميشال عون كمواطن مسيحي في هذا البلد منذ العام 1935، أمّا الوجود المسيحي في لبنان فلا علاقة لبقائه بوجود التيار أو غيره من الأحزاب المسيحيّة، ولم يجرؤ أحد من قبل على هذا الرّبط المخيف المتضخم، ويردّ هذا الوجود بحسب التقليد المسيحي من يوم طاف «يسوع» قرى الجليل، واليهودية، وجنوب لبنان وذلك خلال رسالته العلنية، ومع هذه الحقيقة يصبح الكلام هزلياً بل وشديد الهزال بادّعاء قول «إن غبت أيها «التيّار» غاب لبنان»!!

أمّا مقولة «إن غبت أيها «التيار» غاب المسيحيون من الشرق» فنتساءل: كيف يقاس عمر تيّار سياسي مسيحي في المنطقة بعمر الوجود المسيحي في هذا الشرق؟! فالمسيحية في الشرق الأوسط تواجدت منذ نشأتها لأنّ الشرق الأوسط مهد المسيحية، وكانت هي الديانة الرئيسية في المنطقة منذ القرن الرابع… كيف غابت هذه البديهيات عن النائب باسيل، أم أنّ الحشد والشحن يفقد المرء موضوعيته في «قياس» حجمه الحقيقي؟!

ربما علينا في هذه العجالة أن نذكّر جبران باسيل، بأن تاريح المسيحيين في لبنان عمره يقاس بالقرون، لا ببضع سنين، وأن كلّ الرياح التي هبّت على هذا الوجود بكلّ عنفها وكلّ تقلبات الدّهر وصنوفه وكلّ المستعمرين الذين مرّوا عليه لم يستطيعوا أن يُغيّبوا هذا الوجود، فالمسيحيّة صنعت تاريخ لبنان منذ كانت المسيحيّة، وأنّ الوجود المسيحي في هذا الشرق أصيل ولن يُغيّبه غياب التيّار، ولا تقارن «رسالات» السماء، بتيار سياسي، مهما امتد عمره فإنّ يوماً آتيه يقول فيه الناس عنه «كان»!!

وللمناسبة ، لا بُدّ لنا من تذكير النائب جبران باسيل ببعض من الأيام الصعبة التي مرّت على مسيحيي لبنان ـ بصرف النظر عن اختلاف قراءة التاريخ بين جناحيْ لبنان المسيحي والمسلم، وبصرف النظر عن كونيْ لبنانيّة مسلمة، فإن ما لاقاه المسيحيّون في تلك الحقبة ولا يبرّره شيء، وأنّ هذه الأحداث حقيقيّة ـ

فبعد خسارة الصليبيّين وخروجهم مخذولين إلى أوروبا هجم المماليك على الموارنة، وضايقوهم، وأحرقوا كنائسهم، وهدموا قراهم وأتلفوا كرومهم، و»يوم الاثنين الثاني من شهر محرّم سار أقوش باشا الافرم، نايب دمشق، بعساكر من الشام وغيرها إلى جبال كسروان،فأحاطت العساكر تلك الجبال المنيعة وترجّلوا عن خيولهم وصعدوا إليها من كل الجهات.

ووصل نايب دمشق الافرم إلى جبال كسروان، ووطئ العسكر أرضاً لم يكن أهلها يظنّون أنّ أحداً من خلق الله يصل إليها، فاحتووا على الجبال وخرّبوا القرى وقطّعوا كرومها وقلّعوها، وقتلوا وأسروا من بـها، وخلت تلك الجبال منهم، ومن ذلك الحين خربت كسروان والذين سلموا من أهلها تشتّتوا في كل صقيع»[الأزمنة، 288] وقد أصاب بطاركتهم النصيب الأكبر، فكان هذا يُهان، وهذا يُشرّد، وهذا يُساق إلى المحاكمة، وهذا يُقاوم وهذا يُحرق حيّاً… ففي سنة 1283 قاد البطريرك دانيال الحدشيتي رجاله وقاوم جيوش المماليك عندما زحفت على جبّة بشرّي، واستطاع أن يوقف الجيوش أمام إهدن أربعين يوماً، ولم يتمكّنوا منها إلا بعدما أمسكوا البطريرك بالحيلة.. وفي سنة 1367 أُحْضر البطريرك جبرايل من حجولا، قريته، حيث كان مستتراً زمن الاضطهاد، واقتيد إلى طرابلس وأُحْرِق حيّاً، وقبرُه لا يزال في «باب الرمل» في مدخل المدينة [الدويهي، تاريخ الأزمنة، 338]..

ومن تاريخ بطاركة لبنان ظل دير سيّدة قنّوبين كرسيّاً بطريركيّاً من سنة 1440 الى سنة 1823 وقام فيه أربعة وعشرون بطريركاً: وقد قيل فيهم:»عصيّهم من خشب أما هم فمن ذهب»، هذا تاريخٌ لا يغيب، بل هو عصيّ على التاريخ، ولا يحتاج بقاءه لبقاء التيار العوني ولا مؤسّسه.