Site icon IMLebanon

«التيار»: تعٍبنا.. وأتعبناكم!

                                          

اختبر «التيار الوطني الحر» خلال عشر سنوات من عمر عودة زعيمه من «المنفى الباريسي» الكثير من الأشياء: إغراءات السلطة، طعم التحالفات بحلوها ومرّها، الخيبة من الخارج والداخل، حِرفة الالتزام الحديدي و «فنّ» الانقلاب عليه على الطريقة الجنبلاطية، محاولات مرهقة للوصول الى المأسسة.. تعِب «البرتقاليون» وأتعبوا الآخرين وخصوصاً «أقرب الحلفاء»، وبقي السؤال هل «تيار العام 2015» يشبه نفسه أو «جنراله الأصلي»؟

قبل أن يقف الخطباء على منبر «بلاتيا» للاحتفاء بتجدّد مسيرة «التيار» في الذكرى العاشرة على «الميثاق»، كان لزاماً على زعيمه تقديم دفعة على الحساب من قلب الشارع. تظاهرة الرابع من أيلول في ساحة الشهداء بدت جواباً على المشكّكين بالقدرة على الحشد والتأثير. المقصود تأثير «الجنرال» على أنصاره ومحازبيه ومؤيّديه. «تجديد الخلايا» يبدأ من الأصل. من الشارع. بعدها يترك للسياسة أن تلعب دورها وللمؤسسة أن تبني نفسها على مرأى من ناظريه.

لم يسقط العونيون في امتحان ما بعد عودة جنرالهم في ربيع العام 2005، حتى لو كانت مسيرتهم محفوفة بالكثير من السقطات والانتظارات والرهانات. يكفي أن السلطة ومنافعها عنوان أول للتصدّع الداخلي. يكفي أن نضالات الشارع وعناوين السيادة والتغيير كادت تذوب في كثير من الأحيان في صحون ضيوف طارئين على الرابية على شكل مرشّحين ومستوزرين و «مستثمرين» في الخميرة المسيحية الأصلب والساعين لأدوار تشبه وجوه من ينبذها «العونيون» بالفطرة. يكفي «كار» العداوة الذي فرّخ على جوانب المسيرة العونية مع بعض مَن طلبوا «القرب» ومن «استَعدوا» الرابية.. ويكفي أن الزمن ليس زمن الانتفاضة على وصاية خارجية، بل زمن التسويات.

لا «تغبير» على قدرة أهل «التيار» على الحشد عند «الشدّة». المشهد، المكدّس بـ «البرتقالي» ألغى الحاجة الى العدّ، لكن الشارع ليس كل شيء. كثير من خيارات «المعلّم» السياسية ستبقى مثيرة للجدل مسيحياً ووطنياً، بعيداً عن قدرة الثمانيني المتمرّد على إنزال «جيشه» الى الارض في أي لحظة. الكثير من خياراته وقراراته، في قلب حزبه، تنتظرها اختبارات صعبة للتيقّن من مدى «سلامتها» على «صحّة» التيار واستمراريته ومناعته بوجه ضغوط الخارج والداخل في آن معاً.

في مسيرة «التيار» طلعات ونزلات. «ورقة التفاهم» مع «حزب الله» واحدة منها. العوني الذي رذلها قبل عقد من الزمن صار بالتأكيد عونياً سابقاً يستجدي شاشة ليقصف على «بائع المسيحيين».. «النائم في حضن الولي الفقيه»!

اليوم يتباهى العونيون، مع ثقة زائدة بالنفس، كل من «عيّرهم» بـ «وثيقة الخضوع». عدوى «التفاهم»، الذي لم يكن «مهضوماً» ولا مفهوماً قبل تسع سنوات، انتقلت الى أصل المشكلة. «الرؤيويون» يقولون «كنّا على حق وما فعلناه في العام 2006 صار تقليداً يجمع في غرفة واحدة «حزب الله» و «تيار المستقبل» في مهمّة «إطفاء» اللهيب المذهبي وتكريس ستاتيكو الاستقرار».

تسلّل التوتر والفتور أكثر من مرّة الى غرف أهل «التفاهم»، وكان السبب في معظم الأحيان متصلاً بعلاقة «الجنرال» بالرئيس نبيه بري أو بجدول أعمال محلي يتعارض ومصلحة «حزب الله» على شاكلة تمسك «التيار» بإجراء الانتخابات النيابية في العام 2013.

رئيس «التيار» ذهب أبعد من ذلك، ولحقته القاعدة والكوادر، بتكريسه نظرية «التكامل الوجودي» مع الحزب. هذه من الثوابت التي لن يحيد عنها رئيس «التيار» جبران باسيل. لم يأبه «البرتقاليون» لمن كان يأخذ عليهم أن تيارهم صار فرعاً من فروع «حزب الله» على الساحة المسيحية، والشواهد كثيرة. اختبار «التفاهم» كان أحد أكثر الامتحانات الدالة على صلابة «تيار» كان «يشيْطن» الحزب في أيام المنفى الفرنسي، ويلتهي مناضلوه بكتابة بيانات تساوي المحتل السوري بمغتصب الارض بسلاحه!

وبمثل سلاسة الاقتناع بورقة «المصير المشترك» مع «حزب الله»، مال «التيار البرتقالي» بسلاسة مع ضرورات التقارب المطلوب مع السعودية وسعد الحريري، قبل أن يقرر العودة، بعدما شيّد البعض قصوراً رملية على شواطئ اللقاءات بين روما وباريس وبيروت.

مسار توّج بتوقيع ورقة «النوايا» مع الخصم المسيحي الأول سمير جعجع من دون تكوّن «رأي عام» حزبي مناهض وممانع حتّى على حيطان التواصل الاجتماعي.

هذه بعض النماذج لمدى انسياب العونيين مع القرارات الاستراتيجية لـ «جنرالهم» حتى ولو كانت أحياناً غير شعبية. في المحصلة، النتيجة غير مرضية. لائحة الخيبات طويلة من الحلفاء، والخصوم بطبيعة الحال. وعلى ضفاف هذه المحطات نزل كثر من القطار البرتقالي، وصعد آخرون. واقع لم يسلب «التيار» بريقه وجاذبيته.

في كثير من الأحيان، شعر العوني أنه مجرّد متلقٍّ غير مشارك في القرار طالما أن القرار لا يتّخذ إلا على مستوى الرأس و «الحلقة الضيقة» التي كانت لا تتجاوز باسيل نفسه. وصل الأمر الى حدّ العجز حتّى عن إيصال الصوت. مع ذلك، زاد منسوب المناعة.

حين يصطفّ أعداء الخارج بوجه حلقة يُراد لها أن تكون الأضعف، تستنفر العصبيات الداخلية حتى لو كانت تعاني من نقص الاوكسجين الديموقراطي في شرايينها الحزبية، وتستجدي عدالة من «الجنرال» في توزيع الأدوار والمهمّات والمسؤوليات. بلغت المناعة منسوبها الأقصى في لحظة الانفصام والضياع: نطالب بحقوقنا من الآخرين، في ذروة العجز عن تحصيلها من داخل البيت نفسه. نطالب بالمشاركة وطنياً ونعتمد نظاماً حزبياً مركزياً على طريقة الأحزاب الديكتاتورية المتلاشية. نطالب بالنسبية لبنانياً ونذهب الى اعتماد نظام أكثرية وأقلية داخلياً. نحارب نظام الملل والطوائف والعشائر والعائلات السياسية ونسلك الدرب نفسه في العلاقات الداخلية.

مكابرة «التيار» لها أسبابها. ثمّة «جنرال» يخطئ أحياناً، لكن مكانه في ضمير العونيين أكبر من ان تلفحه كوابيس المحاسبة والمساءلة. الزعيم الأقوى في تاريخ المسيحيين يستحيل أن لا يخطئ، وألا يكون مجرد وهم. هو فرصتهم التاريخية التي قد لا تتكرّر من أجل إصلاح الاعوجاج في النظام. يكابر العونيون لأن «جنرالهم» لا يزال بينهم. هذا كافٍ لخوض أقسى المعارك وأكثرها جنوناً. نحن نمثّل نصف المسيحيين، والآخرون، كل الآخرين، النصف الآخر..

هؤلاء أنفسهم لا يجدون جواباً، أو أقلّه جواباً موحّداً، عمّا ستؤول اليه الأمور بعد ميشال عون. المسألة هنا تتعلّق بقائد شارع مسيحي وقامة زعامة ودور ورمز وعنوان لصلاحيات يجب أن تعود الى «اصحابها» و «جنرال» «مزعج» و «مغامر» يخوض في هذه الأيام معركته الأخيرة.

تجربة جبران باسيل في الرئاسة تحت الاختبار. عنصر قوتها الأبرز أنها تشبّعت خبرة في قراءة نيات الآخرين بحكم التجربة في السلطة وادارة ملف العلاقات السياسية داخلياً، والأهمّ أنها، كما عون، مصدر إزعاج وتوتر لمن كانوا نائمين على حرير «المكتسبات الأزلية».